إيلي شلهوب

انقشع غبار المعركة الدبلوماسية الإسرائيلية ـــــ التركية على مشهد جديد، توزّعت فيه الخسائر والأرباح بنسب متفاوتة، لكنه ثبّت مجموعة من عناصر المعادلة التي تتكوّن منذ سنوات في المنطقة عموماً، وفي أنقرة وتل أبيب خصوصاً. في مقدمة هذه العناصر حقيقة أن الهزيمة باتت مفردة عادية في القاموس الإسرائيلي، يمكنها أن تحمل أوجهاً متعددة (عسكري وأمني وسياسي ودبلوماسي). كذلك الأمر بالنسبة إلى مفردة laquo;أعتذرraquo;، التي يبدو أنها تنضم للمرة الأولى إلى هذا المعجم، الذي اشتهرت فيه تعابير مثل laquo;عجرفةraquo; وlaquo;تفوّقraquo; وlaquo;احتقار الآخرraquo; وlaquo;تكسير عظامraquo; وlaquo;رصاص مصهورraquo; وlaquo;جباية الثمنraquo; وlaquo;قريباً في بيتكraquo; وlaquo;عقاربraquo; وlaquo;أفاعٍraquo;....
هناك أيضاً تمسّك الدولة العبرية بكيفية رؤيتها للعالم، التي عبّر عنها هنري كيسنجر ذات يوم في سبعينيات القرن الماضي بقوله إن إسرائيل لا سياسة خارجية لها بل سياسة داخلية فقط. وفي هذه الحالة تكون الأزمة كلها عبارة عن أحد تجليات صراع أفيغدور ليبرمان وإيهود باراك. محاولة من زعيم laquo;إسرائيل بيتناraquo; للظهور بمظهر المدافع عن laquo;الكرامة الوطنيةraquo; رداً على تصريحات laquo;مسيئةraquo; ومسلسل تلفزيوني laquo;لا ساميraquo; تركيّي المصدر، وذلك في مقابل laquo;خنوعraquo; زعيم حزب laquo;العملraquo; الذي مضى في زيارته المقرّرة إلى تركيا الأحد.
لعل هذا ما يفسر واقعة أن الضغط على ليبرمان لإقناع نائبه داني أيالون بالاعتذار جاء من رئيس الدولة شمعون بيريز لا من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي تبدأ أولوياته بالعمل على ضمان استمرار ائتلافه الحكومي الهش، الذي سينفرط حكماً في حال انسحاب laquo;إسرائيل بيتناraquo; مع ما يعنيه ذلك من خلط أوراق يتهدّد رئاسته للحكومة وبرنامجه السياسي.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن ما حصل قضى على مستقبل أيالون، الخليفة المحتمل لليبرمان، الذي يواجه عدّة تهم فساد تهدّد بإخراجه من الحياة السياسية، علماً بأن نائب وزير الخارجية تصرّف وفقاً للمبادئ التي أرساها laquo;معلّمهraquo; قبل أسابيع في laquo;اجتماع السفراءraquo; بشأن ضرورة laquo;ممارسة سياسة خارجية تحفظ الكرامة الوطنيةraquo;، التي يبدو أن الدولة العبرية بدأت تحنّ إليها.
في المقلب الآخر، يبدو واضحاً أن الأزمة الأخيرة أثلجت صدور قادة حزب العدالة والتنمية، الذين حقّقوا من خلالها مجموعة من الأهداف، في مقدمتها تكريس صورة تركيا (أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل) وموقعها الريادي باعتبارها قوة إقليمية عظمى (سنيّة) في مواجهة الدولة العبرية تصطفّ إلى جانب laquo;الحقوقraquo; العربية، وتزداد قرباً من laquo;محور الشرraquo; وحركات المقاومة؛ اتحاد جميع أطياف القوس السياسي التركيّ خلف رجب طيب أردوغان وعبد الله غول في مواقفهما المتشدّدة حيال تل أبيب، وخاصةً laquo;الاعتذارraquo;. حال تصرف سياسياً في تركيا على الشكل الآتي: هزيمة للعسكر والعلمانيين المؤيدين للشراكة الاستراتيجية مع الدولة العبرية، والمعادين لسياسة laquo;العدالة والتنميةraquo; في التقارب مع العرب ومع إيران.
ومع ذلك لا بد من الإقرار بأن كل هذا الهرج والمرج العربي، الذي رافق الموقف التركي من laquo;الإهانةraquo; الإسرائيلية، إنما هو نابع من ضعف وعقدة نقص عربيّين أكثر مما هو ناتج من بطولة تركية مفرطة. ماذا يمكن دولة، مهما صغرت، أن تفعل إذا ما تعرّض سفيرها لدى دولة أخرى، مهما عظمت، لإذلال كالذي تعرّض له السفير التركي في تل أبيب؟ أضعف الإيمان أن تطلب اعتذاراً رسمياً، وتهدّد بسحب السفير، هذا طبعاً إن كان لديها laquo;كرامة وطنيةraquo;.
ولمناسبة الحديث عن laquo;الكرامة الوطنيةraquo; وكيفية صيانتها، لا بد من استعادة حادثة شبيهة دارت رحاها بين تل أبيب والقاهرة، مع بعض الفوارق: من أهان كان برلمانياً لا نائب وزير خارجية. ومن أُهين كان رئيس دولة لا سفيراً. الأول ليس سوى ليبرمان. أما الثاني، فحسني مبارك. جرى ذلك أواخر عام 2008. وقتها قال ليبرمان، الذي توعّد أيضاً بتدمير السد العالي رمز العنفوان المصري، عن مبارك إنه laquo;إذا ما أراد أن يتحدث معنا يجب أن يأتي إلى هنا، وإن لم يرد فليذهب إلى الجحيمraquo;. حُلّت المشكلة ببضع كلمات من بيريز وأولمرت laquo;طيّباraquo; بها laquo;خاطرraquo; الرئيس المصري، الذي لا شك في أن الميزة المعروفة عنه ليست سوى laquo;طيبة القلب والتسامحraquo;. صفة يتغنّى بها سكان العشوائيات، وزوّار مراكز الاستخبارات وأمن الدولة وضحايا العبّارات وسكك الحديد والعمّال المصريّون في الخارج والهاربون إلى laquo;جنّاتraquo; أوروبا، فضلاً عن سكان غزة وlaquo;مغامري حماس وحزب اللهraquo;.