سليمان تقي الدين

يكاد يكون هناك اجماع منقطع النظير لدى النخب والجمهور، لدى الحكّام والمحكومين، العامة والخاصة، ولدى جميع القوى والتيارات الفكرية والسياسية، على وجود مسألة عربية . هناك وجوه مختلفة وتظاهرات متعدّدة لهذه المسألة، كما هناك دون شك توصيفات ومقاربات متنوعة . في الظاهر على الأقل يمكن تعداد مشكلات كثيرة على السطح تفرض نفسها . الأمن والقضايا الأمنية يتصدران الواجهة في العديد من البلدان . الأزمات السياسية من النوع الذي يتعلق بشرعية الدول والنظم والأوضاع . المشكلات الاقتصادية والاجتماعية . الأزمة الثقافية بمعناها الشامل، من الأمية الثقيلة الى فوضى الأفكار والانشقاق الخطير بين الوعي الإنساني والعصر .

طبعاً هناك ما هو أدهى . العرب هم الجماعة التي لم تنجز كامل استقلالها الوطني وتحررها من أشكال متعدّدة للاستعمار . بل ربما هي الجماعة التي تتعرض لاحتلال جديد واستعمار متجدد بالقوة المباشرة أم بالرضوخ والقبول الاضطراري . هناك فوضى كيانية في اكثر من بلد عربي ونزاعات ونزعات انفصالية وصراعات دينية ومذهبية واثنية وجهوية .

الأمن والاستقرار في حال من التدهور أمام الحروب والعنف في الاطار الاقليمي وبين الدول وداخل المجتمعات . أمن الفرد (المواطن العربي) بمعاييره واشكاله المتعدّدة في خطر . مستوى التعاطي بين العرب كجماعة منظمة في كيانات ودول وحكومات ومؤسسات مع التحديات المعاصرة يكاد يؤشر على سلبية كاملة . قضايا البيئة، الطاقة، الموارد الاستراتيجية الغذائية والمعدنية والثروة المائية في أدنى سلّم الاهتمامات . مسألة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في أسوأ مستوياتها . القيم المعاصرة لقياس تقدم المجتمعات تسجل ادنى منسوب لها على مستوى الحربية والديمقراطية والمشاركة وحقوق الانسان والعدالة القضائية والاجتماعية .

الاختلالات في الانظمة الاقتصادية كبيرة بنيوياً وتوازنات ونتائج اجتماعية . تمركز الثروة وتوسع قاعدة الفقر وضمور الطبقة الوسطى مشتركات بين البيئات الاقتصادية المختلفة، في الدول الريعية وغير الريعية . البيروقراطية والفساد وثقل مرافق الدولة والامتيازات بأشكالها ووسائلها المختلفة تعيق انتظام الديناميات العادية الطبيعية لتطور المجتمعات . هناك نمطان من الاقتصاد السياسي على خصوصية بارزة، إما دول ريعية، وإما رأسماليات دولة، وفي كلا النمطين تلعب الدولة دوراً حاسماً في الاقتصاد وفي تشكيل المجتمع . يطول تعداد ووصف الظاهرات العربية التي تتضافر على تكوين ما نسميه المسألة العربية .

طُرحت المسألة العربية في أواخر القرن التاسع عشر مع صدمة الحداثة والصدام مع الغرب . ثم طرحت في مرحلة الاستعمار التقليدي في صورة الاجابة على المشروع الاستقلالي وغرقت في لجّة الخطاب القومي حتى هزيمة الخامس من حزيران/يونيو 1967 منذ تلك اللحظة التاريخية انفجر السؤال بشكل واسع في اذهان جميع النخب الثقافية .

أجاب المثقفون العرب ومازالوا يجيبون بأشكال مختلفة على هذه المسألة ولا يخرج الأمر عن أولويات صاغها هؤلاء المثقفون، كأن جعلوا قضية نظام المعرفة أو المسألة المعرفية في المقدمة، او الثقافية، أو الاقتصادية أو السياسية . ولعل الذين تحدثوا عن أزمة حضارية شاملة نجحوا في عدم حشر انفسهم في مقولة واحدة أو قضية واحدة . ليس هنا طبعاً مجال مناقشة الفكر العربي بجميع الوانه وتجلياته خلال العقود الأربعة الماضية . لكنها مجرد اشارة لخلفية المسألة للقول إنها سياسية ليس بمعنى الاجتزاء والاختزال بل بمعنى الارادة والوعي والقرار . في السياسة يتجّلى البعد الثقافي وrdquo;يتكشف الاقتصادrdquo; . لم تتقدم أوروبا بالأفكار وحدها بل بتوافر نخبة سياسية ملتزمة بتلك الأفكار ومن خلال ثورات سياسية عنيفة . كذلك شأن روسيا والصين . مسألة التقدم دائماً هي مسألة سياسية . لم يولد المشروع العربي من رحم الامبراطورية العثمانية ولادة طبيعية بل ولادة قيصرية بتدخل مباشر من الاستعمار القديم . اما القوى التي قادت المشروع العربي فلم تكن قوى حداثية بل تقليدية بدأت بثورة الشريف حسين .

المشروع السياسي العربي الاستقلالي لم يكن قادراً على تعويض النقص الفادح في بنية المجتمعات العربية التي كانت أشبه بأقاليم مفككة ما سهل تمرير التجزئة القومية المفترضة . حدود التحولات الاجتماعية والاقتصادية وقطاعاتها الحديثة في كل الأقطار العربية لم تساعد على تكوين قيادة قومية بالمعنى الصحيح للكلمة . وفي مرحلة الانتداب/ الاستعمار تعمقت مفاعيل التجزئة الى حدودها القصوى ولم تنشأ حركة سياسية عربية عابرة للتجزئة . الاحزاب القومية الحديثة (الحزب السوري القومي الاجتماعي حزب البعث حركة القوميين العرب . .) لم تستقطب النخب الثقافية والاقتصادية والسياسية القادرة على التجذر في بنية المجتمعات العربية . تحولت ظاهرة جمال عبد الناصر الى الظاهرة الاقوى والأبرز بعاملي قوة مصر وموقعها وبقوة الجذب لدى القائد الكاريزمي الذي قدم الجمهور ولاءَه له من غير ان تتوافر حركة سياسية منظمة ناصرية فاعلة في الاقطار العربية .

حدثت تحولات سياسية مهمة في جميع الاقطار العربية على يد الحركات والقوى الوطنية لا يجوز إنكارها . وفي بعض الدول شهدنا تحولات اجتماعية حقيقية . لكن مجمل هذه التحولات لم يؤسس قاعدة صلبة للمشروع العربي . تبعثرت الحركة القومية بجميع احزابها وحركاتها مع هزيمة 1967 وانخرطت جميعها في اللعبة السياسية القطرية من دون أي أفق برنامجي نهضوي محلي أو عربي . كانت هذه القوى تبحث عن ldquo;رافعة تاريخيةrdquo; جديدة بديلاً من الانقلابات العسكرية، وجدتها مرة في الانعطاف اليساري اللفظي ومرة في الرهان على الثورة الفلسطينية . ظلت العروبة حركة ldquo;سياسويةrdquo; وليست سياسية، تستخدم الفكرة العروبية كمحرض وملهم ومعبىء ولا تقدم مشروعاً عروبياً . هي نفسها غرقت في لعبة السلطة المحلية حتى صارت القطيعة عميقة بين شعاراتها وقواها الاجتماعية . دخلت في الصراعات في ما بينها كقوى سياسية وفي الصراعات العربية - العربية التي انفتحت كل ابوابها آنذاك . ولا حاجة للتذكير بالمشهد العربي الذي بدأ يتدحرج منذ مطلع السبعينات في اتجاه المحافظة على الاوضاع السياسية القائمة وانشغال النخب الحاكمة بأمن حكمها وأنظمتها . توقف المشروع العربي بما هو مشروع تغيير الاوضاع والمعادلات وحل محله نظام سياسي اقليمي مشغول بمشكلات ادارة الازمات .

بادرت النخب الثقافية العربية لطرح ldquo;المسألة العربيةrdquo; في ضوء ما صار يعرف بrdquo;الهزيمةrdquo; التاريخية وتفرعت الاسئلة والاجابات، لكنها ظلت اسيرة الدائرة النخبوية الضيقة ولم تلامس حدود التيارات السياسية التقدمية بصورة فاعلة وجدية، وذهبت جموع الناس باتجاه ثقافتها الفطرية البدائية تستقوي بها على حال البؤس والضعف . حال هدر الكرامة القومية والوطنية والفساد وفقدان التنمية والمشاركة .

المسألة العربية اليوم هي مسألة شاملة ذات أبعاد معرفية وثقافية وسياسية واقتصادية وأمنية . لكن ذلك لا يعني بالنتيجة إلاّ ضرورة توافر ارادة سياسية للتغيير داخل النخب . كل النواحي الاخرى من هذه المسألة تحتاج الى القرار السياسي، التربية والتعليم وتطوير الثقافة واكتساب التكنولوجيا والاهتمام بالموارد وتحديث الادارات وتقوية مفهوم الصالح العام وتنظيم القدرات والطاقات ومكافحة الفقر والأمية . . الخ، كلها تحتاج الى قرار سياسي، والمطلوب جسر الهوة بين النتاج الفكري التقدمي وبين مصادر القرار داخل السلطة أو عبر مؤسسات العمل الشعبي .