محمد أركون

..ينبغي العلم بأن الضغط الكولونيالي وجاذبية الحضارة المادية الحديثة التي ترافقه قد كشفا اليوم أكثر من الماضي عن كيفية استعباد الدين من قبل السلطة السياسية.

ولكن لنكرر هنا مرة أخرى ما يلي: لم يحصل ذلك بسبب الضغط الاستعماري وحده فقط كما يكرر خطاب حركات التحرر الوطني.

وإنما أيضاً بسبب البنية الايديولوجية لسلطة الدولة منذ ان كانت السلطنات والإمارات قد حلت محل الخلافة الاسلامية. من المعلوم ان الدولة العثمانية كانت عسكرية، استبدادية، اطلاقية، تمارس نظام الرق والعبودية.

وبالتالي فالفرق بينها وبين الدولة الاوروبية العلمانية، البورجوازية، الليبرالية، أصبح واضحا للعيان اكثر فاكثر. فالتفاوت كبير بين كلتا الدولتين ولم يعد أحد بقادر على اخفائه.

وهذا ما دفع بالمفكرين المسلمين الاصلاحيين الى التجرؤ على انتقاد السلطنة العثمانية جهارا نظرا لتخلفها واستبدادها وطابعها التعسفي.

ولذلك فإن خير الدين التونسي طرح عليها بعض التساؤلات والاحتجاجات عام 1867 في كتابه المعروف: أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك (تحقيق منصف شنوفي.تونس.1972).

في هذا الكتاب ينتقد المؤلف الأوضاع السائدة في ظل السلطنة العثمانية ويدعو الى تقليد أوروبا أو استعارة بعض المؤسسات والممارسات السياسية منها من اجل تحقيق الاصلاحات المنشودة. ولكنه في ذات الوقت يدعو الى جعل ذلك متوافقا مع الشريعة الاسلامية والتقاليد الموروثة.

وكان يرى ان ذلك سيؤدي الى حصول تطور ايجابي في العالم الإسلامي، أي تطور مشابه لما حصل في الحضارة الغربية. ثم ارتفعت أصوات أخرى وانضمت الى صوت خير الدين من اجل الاحتجاج على سوء الاوضاع العامة والدعوة الى اجراء اصلاحات داخل الامبراطورية. واستمر الامر على هذا النحو حتى الحرب العالمية الثانية.

وبعدئذ جاء عهد جمال عبد الناصر والضباط الأحرار ووضع حدا للأيديولوجيا الليبرالية وساهم في انتصار الشعوب المستعمرة على نير الاستعمار. ولكن ينبغي الاعتراف بأن الايديولوجيا الكفاحية ضد الامبريالية الغربية أخرت الى أجل غير مسمى عملية النقد الداخلي للانغلاقات الموروثة عن الماضي. بمعنى آخر فقد أخرت من عملية طرح المشاكل الحاسمة التي تربط بين الدين والدولة والدنيا في السياقات الاسلامية.

نقصد بذلك ان التحرير الخارجي حصل على حساب التحرير الداخلي. لا ريب في ان التحرر من الاستعمار كانت له الاولوية، ولكن آن الأوان للتحرر من الاستعمار الداخلي ايضا اذا جاز التعبير: أي من حكم التعسف والاعتباط والديكتاتورية والظلامية الدينية. آن الأوان لطرح الاسئلة الحقيقية على تركيبة المجتمعات العربية والاسلامية لمعرفة سبب تخلفها وجمودها وانعدام الحرية والديمقراطية فيها.

فالاستعمار انتهى ولكن هذا الجمود الفكري والسياسي لم ينته حتى الان. وبالتالي فهناك أسباب داخلية للتخلف ولا يمكن ان نلقي بالمسؤولية على عاتق الاستعمار والامبريالية الى أبد الآبدين.
لم يحاول أحد حتى الآن ان يجري مقارنة بين التجربة الاسلامية في الحكم والتجربة الاوروبية الغربية.

أقصد لم يقارن أحد بينهما حتى الان على الصعيد العلمي المحض. وأقصد بالصعيد العلمي هنا اجراء مقارنة تاريخية وسوسيولوجية وانتربولوجية. لو ان أحد المفكرين قام بذلك بشكل جيد لأدى ذلك الى مراجعة المواقف الاسلامية من جهة، ومواقف الفكر العلماني الغربي من جهة أخرى. ينبغي العلم بان مسألة العلمانية بحاجة الى إعادة بلورة من جديد اليوم. فالعلمانية تطرفت في الاتجاه المعاكس وتحولت الى علمانية.

ولذا ينبغي نقدها وتصحيح مسارها فيما وراء الشعارات التقريبية والانقسامات الايديولوجية التي لا نزال نعيش عليها حتى الآن في أوروبا. ينبغي ان نتوصل الى علمانية منفتحة على البعد الروحاني وايجابية.

وهذا ما يحاولون بلورته في فرنسا اليوم. أقول ذلك وأنا أتحدث هنا عن اوروبا وليس الغرب ككل لان مصطلح الغرب يشمل أمريكا الشمالية ايضا.

ولكننا نعلم ان الغرب اذا كان يشكل توسعا جيوبوليتيكيا، أي جغرافيا وسياسيا، لأوروبا، إلا انه لا يشكل بالضرورة توسعا تاريخيا. فامريكا الشمالية حديثة العهد ولا يزيد عمرها على مائتين او ثلاثمائة سنة.

يضاف الى ذلك انه في المنظور المقارن فإن أوروبا تندرج داخل فترة تاريخية طويلة جدا من العلاقات التفاعلية مع الاسلام وذلك قبل ان توجد أمريكا أصلا.

وهذا ما برهنت عليه في الكتاب الجماعي الضخم الذي أشرفت عليه: الاسلام والمسلمون في فرنسا منذ العصور الوسطى وحتى اليوم. منشورات البان ميشيل. باريس 2006.