يوسف الكويليت

بلا شك أن تنامي الوعي عند الأجيال العربية الراهنة، بدأ يتقدم، لكنه ظل محصوراً بالتفكير في تأمين الأساسيات لحياته، وحتى ما كنا نفهمه من صراع بين أصحاب الأعمار والمتمسكين بالتقاليد ، وفرض الأبوة المطلقة، وتسلط الأخ الأكبر على أخواته الإناث، بدأت تنحسر لصالح عالم متمازج، أي أن خبر غرق سفينة في أقصى أفريقيا يُنقل في الحال إلى كل العالم، ومن هنا جاء الزلزال الذي أزال العوائق، والأسرار والتكتم على التجاوزات الجغرافية للفرد والجماعة في جميع أنحاء العالم..

ما يهمنا في الموضوع، هو لماذا انحسر مد الأحزاب ومؤيديها، السري منها والمعلن؟ ولماذا اختفت المنظمات الأخرى كاتحادات العمال والنقابات وغيرهما، وبقي حزب الدولة ومنظماتها هما من ينتخب ويختار ويعين، لتكون الإجراءات على حساب المواطنة، ليأتي الانحسار والاهتمام بالشأن السياسي الداخلي بسبب يأس عام بعدم الإصلاح، إلا بمعجزة ، وبالتالي تحول الهمّ من وطنيّ إلى ذاتي، ومن جماعيّ إلى فردي، حتى إن كذبة الزعيم الأوحد والمنقذ ونصير العمال والفقراء، ومؤسس العدالة بقيت مجرد ذكريات لمرحلة تضاعفت فيها العواطف على منطق الحق والحقيقة في تحليل مضمون تلك الاتجاهات ونقدها عندما وصلت إلى التقديس، وأعطت لنفسها التفكير وإصدار القرارات نيابة عن الإنسان المواطن..

تلك الخيبات، وما رافقها من تدن للفرز بين المخلص الصالح، ومن يعتمد الفساد كمنهج ليحيط المسؤولون أنفسهم بطبقات من المنتفعين والأزلام، والعيون الراصدة التي تعاقبك على النظرة والهمسة، أعطت المجال لفكر الانغلاق، وبأن الحلول لا تأتي من المستقبل بل من الماضي عندما كان المجتمع نقياً ومتضامناً، وهو تعبير لقي صدى عند أجيال لا يحاصرها الفقر كحافز للتطرف والتحدي، وإنما خرجت مجاميع أخرى من بيوت وأسر متوسطة، وأخرى تصل إلى التصنيف البرجوازي، فصارت الحروب نهجاً مغرياً، وتحولت مدارس العقل إلى حالة ينتهجها الجبناء، لأن الأساس في التغيير لا يقوم على المصالحة بين فكر يقوم على العقل المستسلم . وبين آخر محدداً فهمه لطبيعة الصراع وضرورة إنهائه بالقوة، أو ما يسمى بالتضحية التي أخذت عنوان الجهاد..

هنا دخلنا في جدلية مَن المتسبب في الانهيار العربي الكبير، هل هي تركيبة السلطات منذ الدولة الأموية، إلى القُطرية بأشكالها ونظمها المختلفة، أم أن الخلل جاء من بنية المواطن الذي يعبر عن فرحه، وغضبه، عن حاضره ومستقبله بروح الانفعال، دون التفكير بالطرق التي يبدأ منها فرض صورته؟ وهل من ركضَ خلفهم، وانتخبهم، سواء باقتراع شبه مقبول، أو بالسخرة، هم من انتزعوا منه قدرته على الرفض، وفرض الإرادة الوطنية؟

في تشابك الأزمات العربية، الكل مدان، وبالتالي نحتاج إلى محاكمة تاريخية تحلل أوضاعنا وما درجنا عليه من تفكير، وثورات، واستسلام، وانقلابات لنرى أنفسنا من أفق المنطق العقلي الذي يوازن بين الظروف والإنسان ليحرره من عقدة النقص ومن ثم التأهيل لعالم تسوده الحرية والحقوق المتساوية..