صالح مجيد

يعيش الإعلام العراقي واقعا مرتبكا من حيث الرؤية والأداء، ويتلازم هذا الارتباك مع النظام السياسي الجديد، الذي مازال طور التأسيس منذ سقوط الديكتاتورية، ودخول القوات الأجنبية إلى البلاد في العام 2003. فالصحافة لا يمكن أن تحقق غايتها الجوهرية التي تتلخص في خدمة المجتمع، ورفع مستوى الوعي لديه، من خلال تقديم المعلومات، وإضاءة الأحداث المهمة، ما لم تنضج وتتكامل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية التي تسبق سلطة الصحافة في الظهور داخل بنية الدولة.
إن خصوصية الوضع السياسي في العراق وضبابية القوانين الخاصة في عمل المؤسسات الإعلامية، والتحول الثقافي المفاجئ، الذي رافق سقوط نظام سياسي استبدادي حكم طويلا، كل ذلك أدى إلى ظهور قائمة طويلة من قنوات فضائية وإذاعات وصحف تعمل في غالبيتها لمصلحة الأحزاب السياسية في الحكومة الجديدة، من دون الالتزام طبعا، بتأسيس ثقافة الديمقراطية.
وأخطر هذه المؤسسات على المسار الديمقراطي للدولة، هي تلك التي تعزف على وتر القومية، أو الطائفية. أما المؤسسات الإعلامية الأشد خطورة، فهي تلك التي تستغل الخطاب الديمقراطي الحر للطعن في العملية السياسية برمتها، والترويج لفكرة أفضلية النظام السياسي السابق، الجامد، بمقارنته مع النظام الحالي المتحوّل، والذي لا ريب أنه يحتاج إلى الوقت وتضافر الجهود من أجل تحقيق مبادئه والوصول إلى الرقي الحضاري المأمول.
فالقوانين العراقية الخاصة بالصحافة، مازالت تعتمد على القانون رقم 178 لسنة 1969، وهو قانون وظف الصحافة كليا لخدمة النظام السياسي الأحادي الذي يتناقض تماما مع الحريات الأساسية في النظام التعددي.
أما المواد التي وردت في الدستور العراقي الجديد، والخاصة بالصحافة، فقد اعترفت بحرية الصحافة، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من حرية التعبير، ونظام الدولة الحديث. ولكن البرلمان العراقي لم يتمكن حتى اليوم، من سن قانون للصحافة يوضح فيه مشترطات العمل الصحافي، وينظم العلاقة بين الدولة والمؤسسات الإعلامية، ويحمي حقوق الصحافيين.
فعلاوة على أن العراق يعد أكثر الدول التي قتل فيها صحافيون -بحسب تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الناشطة- بسبب العمليات الإرهابية، وأحداث العنف التي تعصف بالبلاد، فإن الصحافيين العاملين مع المؤسسات الإعلامية العراقية، يقعون يوميا ضحية تعسف المؤسسات التي يعملون لديها. فالكثير منهم يعملون من دون عقود قانونية، ولا يتمتعون بأية امتيازات تسمح لهم بالتعويض في حال تخلي هذه المؤسسات عنهم.
أما العقود الموقعة لدى الآخرين القلائل، فهي في الغالب، ليست سوى عقود شكلية لم تكتمل شروطها القانونية. فقبل أيام سرَّحت إحدى القنوات الفضائية سبعة عشر إعلاميا كانوا يعملون لديها لشهور عدة وفق عقد قانوني تبين فيما بعد أنه لم يكن ملزما للطرف الأول (القناة) أمام المحاكم العراقية. كما قام أحد أصحاب القنوات الفضائية التي تهتم بالشأن المسيحي في العراق، من خلال ارتباطه بأحزاب حاكمة، بتوزيع أراضٍ على جميع العاملين المسيحيين، مستثنيا العاملين المسلمين من هذا الإجراء، على رغم أن العديد من هؤلاء المسلمين يشرفون، بحكم كفاءتهم العالية، على تطوير خبرات المسيحيين في العمل الإعلامي داخل تلك القناة.
هذا الواقع الإعلامي الصعب الذي يعاني تهافت الأطروحات والأجندات السياسية، وتداول الأحداث بأشكال مختلفة، أدى إلى تشويه ذهن المواطن وقبوله للأفكار السوداوية الطافية في وسائل الإعلام المختلفة، وبالتالي تغييم رؤيته لمستقبل البلاد السياسي، والتشكيك المستمر بواقعها الحالي بفعل التدفق السلبي للمعلومات. فالوعي السياسي للمواطن، في العهد البائد، اعتاد على استقبال صورة واحدة، وفكرة واحدة، وخطاب واحد، بفعل الترسانة الصحافية الجبارة التي كانت تدعمها السلطات الحكومية الصارمة والقامعة آنذاك.
هكذا، وعبر تراكم زمني طويل استمر عشرات العقود، استسلم هذا الوعي أمام سطوة المعلومة المتكررة والمستنسخة -حتى في حال رفضه لها- وصارت هذه المعلومة جزءا من البنية الثقافية للإنسان، وتحول هذا الجزء إلى مرض لا يمكن استئصاله منه إلا بعمليات جراحية تحتاج إلى مشارط إعلامية وثقافية أكثر ذكاء وفاعلية.
من جانب آخر، كان يفترض بالدولة ذات التوجه السياسي الجديد أن تواجه تحديات الأجندات المتعددة في وسائل الإعلام من خلال نظام قانوني يُؤمِّن لها دعم العملية السياسية الديمقراطية وتحصينها، بدلا من تفنيدها ونسفها. وهذا النظام القانوني لا بد أن يرتكز إلى جملة إجراءات صارمة تتواءم مع ضرورات التحول السياسي وخصوصية الوضع الذي تعيشه البلاد. ومن أهم هذه الإجراءات توحيد الخطاب الإعلامي فيما يتعلق بالعناوين المقدسة لنظرية الديمقراطية. فمنع الأفكار التي تروّج للإرهاب والدكتاتورية والتحريض الطائفي والعرقي في الخطاب الإعلامي، لا يعني انتهاك حرية التعبير وتكميم الأفواه، بل يدخل ذلك في صميم العمل السياسي الذي تتّبعه معظم الدول ذات الأنظمة الديمقراطية لكي تحافظ على أمنها الوطني.