عبدالحميد الأنصاري


مازلت مؤمناً بأن إصلاح الخطاب الديني هو المدخل الضروري لإصلاح الأوضاع العامة لمجتمعاتنا العربية والإسلامية، وطبقاً لإعلان باريس- أغسطس 2003ndash; فإن تجديد الخطاب الديني ضرورة ملحة لعبور الفجوة بين العالمين العربي والإسلامي والعالم المتقدم، وعامل رئيس في تجديد الحياة السياسية والاجتماعية في العالم العربي، هذا الخطاب السائد عبر 3 عقود هو إنتاج ما سمي بـ'الصحوة الدينية' التي صعدت على أكتاف خطباء تيار الإسلام السياسي عقب إفلاس وانحسار طروحات التيارين: القومي واليساري، وهو يعاني اليوم وضعاً مأزوماً، وقد أصبح عاملاً معوقاً لنهضة مجتمعاتنا.
لقد فشل هذا الخطاب في تقديم خطاب حضاري ومتصالح مع العالم ومع مجتمعاته ومع نفسه، كما فشل في حماية مجتمعاتنا من أمراض التطرف والغلو، وأخفق في تحصين الشباب من آفات الفكر الإرهابي، وحمل الخطاب الإسلامي المهاجر إلى ديار الغرب آفات المجتمعات الإسلامية معه، فزاد المسلمين رهقاً واستغله اليمين المتطرف ليزداد الإسلام والمسلمون إساءة، لقد شقي المسلمون هناك بهذا الخطاب، إذ عوق تآلفهم وأخرج من بين أظهرهم من أساء إلى المسلمين والعالم.

لقد أورد هذا الخطاب شباب المسلمين المهالك، إذ حبب إليهم الانتحار وسماه laquo;أسمى أنواع الجهادraquo;، وحولهم إلى قنابل بشرية طائرة وأدمغة مفخخة وأحزمة ناسفة، وجعلهم laquo;مشاريع للشهادةraquo; طبقاً لضياء الموسوي، فأصبحت أمة الإسلام يقتل بعضها بعضاً، كما يقول د. عائض القرني laquo;انظر إلى خارطة العالم فسوف تجد أن القتل والتدمير والتفجير في الدول الإسلامية، سفك للدماء وإزهاق للأرواح ونسف للبنية التحتية وتخريب للعمار، وفئات يكفر بعضها بعضاً وفتاوى طائشة تستحل دم المسلم وتخرجه من الملة وتحرم عليه الجنة، ماذا أصاب أمة الإسلام؟!raquo;، لقد أصبح المسلمون بعد أن كانوا أمة تدعو إلى الخير والتسامح، أمة يتوجس العالم منها، صاروا مصدر رعب لمطارات العالم بعد أن أفلح النيجيريndash; القنبلة الطائرةndash; في اختراق الحواجز الأمنية.

لقد أخفق الخطاب في تصحيح المفاهيم المغلوطة عن الإسلام وتحول إلى عامل تأزيم وفرقة بين المسلمين، ومصدر تهديد للوحدة الوطنية، أصبح الخطاب الديني السائد عبر المنابر الدينية والفضائية والإلكترونية خطاب تعبئة وشحن وتجييش وتحريض على الكراهية، وتكريس الانقسام بسبب laquo;التسييسraquo; الضار الذي ابتلي به منذ بزوغ نجم دعاة الإسلام السياسي، فأصبح laquo;التسييسraquo; هو الزاد اليومي الذي يغذي الصراعات السياسية والنزاعات المذهبية، فـlaquo;التسييسraquo; هو الآفة الكبرى الحاكمة لدنيا العرب، وقد طالت بيوت الله فاستغلت منابرها في غير أهدافها المشروعة.

وعندنا نموذجان بارزان لهذا laquo;التسييسraquo; الضار: الأول: داعية شاب من شباب الصحوة آتاه الله بلاغة وحضوراً وجاذبية فأصبح له أنصار ومعجبون وصار صديقاً للفضائيات، اعتلى منبر الجمعة وكال الاتهامات لإخواننا الشيعة وعرض بمرجعهم الدينيndash; الحكيم السيستانيndash; وما كان رسول اللهndash; صلى الله عليه وسلمndash; شتاماً ولا داعية فرقة، فلماذا يتخذ منبره فيما يناقض سنته وهديه؟! ولماذا إشغال المصلين بقضايا سياسية خلافية؟ ولماذا استباحة عرض المسلم وانتهاك قدسية المسجد؟ وبأي حق يحول الداعية منبر المسلمين إلى منبره الخاص؟!

النموذج الثاني: نجم بارز من نجوم الإسلام السياسي له مريدون كثر عبر الساحة، يصفونه بـlaquo;فقيه الصحوةraquo; حوّل منبر الجمعة الديني إلى منبر سياسي أسبوعي خاص لبث آرائه وتوجهاته السياسية الخاصة، يرى أن من حقه أن يتدخل في شؤون الدول الأخرى فيصدر laquo;الفتاوى السياسيةraquo; تبعاً لمواقفه من تلك الدول، ولا يتورع عن الانحياز إلى طرف سياسي ضد آخر، وفي الأمس وفي حياة الرئيس الفلسطيني عرفات- رحمه الله- طالبه من فوق المنبر بالتنحي عن الرئاسة، واليوم يطالب ومن فوق المنبر برجم خلفه laquo;عباسraquo; حتى الموت بمكة بسبب تقرير laquo;غولدستونraquo;، وعندما جاء عباس إلى الدوحة وطالبه بالتراجع عن فتواه وبأن يتأكد ويتحقق، أبى ولم يتراجع! وفي الأمس تسابق خصوم عباس للتخلص منه وشعارهم laquo;دعني أدخل به الجنةraquo;.

لا نصادر حرية الدعاة في التعبير عن آرائهم السياسية لكننا نرى أن ذلك ليس مكانه منابر بيوت الله التي يجب أن تصان عن الخلافات السياسية والصراعات المذهبية، يجب أن ننزه منابر بيوت الله عن اللغو السياسي ولا ينبغي اتخاذها منبراً لتصفية الحسابات السياسية والشخصية، لا وسيلة لبث الفرقة بين المسلمين، سيقول البعض: هذه مقولات علمانية تريد فصل السياسة عن الدين وحصر الخطبة الدينية في أمور العبادات وفي قضايا الحيض والنفاس، لكنه مراوغة مكشوفة فنحن نؤمن بشمولية ديننا للدنيا والآخرة، ومن لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ونحن نؤكد أن مهمة الخطيب توعية المسلمين والارتقاء بهم وتنويرهم وإصلاحهم والدفاع عن قضاياهم على بصيرة، لكن ليس من مهمته نقل الصراعات السياسية من الشوارع إلى المساجد، وليس من سلطته الحكم على الناس في معتقداتهم الدينية والوطنية أو اتهامهم بالعمالة والخيانة.

نحن مع laquo;التسييسraquo; النافع الذي يؤلف بين المسلمين ويجمع أمرهم ويصلح ذات بينهم، ويبصرهم بالأخطار والتحديات من حولهم، ويعزز المشترك الديني والوطني والإنساني بينهم، نحن مع laquo;التسييسraquo; الذي يتجاوز الخلافات السياسية والمذهبية ويدفع المسلمين إلى المزيد من العطاء والإنتاج والتفاعل مع العالم، نحن مع هذا الخطاب الذي ينتصر لكرامة الإنسان ويدافع عن حقوقه وحرياته، ولا نريد أن تتحول مساجدنا إلى ساحة للصراعات السياسية الضيقة كما هي الحال في مساجد غزة وإيران.

إننا اليوم بحاجة ماسة إلى laquo;أنسنةraquo; الخطاب الديني ليصبح خطاباً يحتضن الإنسان لكونه laquo;إنساناًraquo; كرمه الخالق عز وجل، laquo;ولقد كرمنا بني آدمraquo; قبل أن يكون مسلماً أو غير مسلم، رجلاً أو امرأة، سنياً أو شيعياً، صوفياً أو سلفياً، نريد تحبيب شبابنا بالحياة والعمل والتنمية ومساعدتهم في توظيف طاقاتهم في ميادين السباق الحضاري لا الهدم والتدمير وإزهاق الأرواح، نريد خطاباً إنسانياً يشيع مشاعر البهجة والسرور والفرح في مجتمعاتنا، ويؤكد القيم الأخلاقية، فرسولنا laquo;رحمة مهداةraquo; وقد بعث ليتمم مكارم الأخلاق وليدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، نريد خطاباً إنسانياً متسامحاً ومنسجماً مع روح العصر ومنفتحاً على الثقافات الإنسانية، يزيل توجس العالم منا كما يزيل هواجسنا التآمرية تجاهه، لقد خسرنا كثيراً برفضنا للعالم أكثر من رفض العالم لنا.