عبدالله مناع

انتهت يوم الجمعة الماضية أطول معاناة إنسانية تعانيها مجموعة نبيلة خيرة من الأوروبيين والأتراك والمهاجرين العرب إلى دول الاتحاد الأوروبي.. رأت أن تقوم بجهد إنساني تطوعي للتخفيف عن معاناة أبناء غزة وشيبها وأطفالها ونسائها، الذين ضربت عليهم 'إسرائيل' حصاراً برياً وبحرياً محكماً دخل في شهره السابع عشر.. بعد حرب الأربعة والثلاثين يوماً التي شنتها عليهم بـ 'مدرعاتها' و'طيرانها' وكل أسلحتها المحرمة وغير المحرمة في شهر تموز/يوليو من عام 2008م بهدف إسكات صواريخ القسام المحلية الصنع، وقد اصطحبت من أجل تحقيق ذلك الهدف ما استطاعت تجميعه من الأدوية والأغذية والمعلبات وملابس الأطفال والمفروشات والأجهزة الطبية وغير الطبية لهذه المدينة المحاصرة أو القطاع المحاصر، والمحروم من استيراد كل شيء، وأي شيء حتى إبرة الخياطة.. عن طريق تبرعات الجمعيات الخيرية والإنسانية ومؤسسات المجتمع المدني، ووضعت ذلك كله على سفينة واحدة، في 'قافلة'.. أسمتها: 'قافلة شريان الحياة 3'.. ربما لأنها تأتي بعد القافلتين والسفينتين القبرصية واللبنانية، وربما لأنها الثالثة فعلاً تحت هذا الاسم (شريان الحياة 3)، ففي مثل هذه الحالات.. لا تظهر كل المعلومات.. لأن الهدف من وراء هذا 'العمل' أو هذه القافلة أو سابقتيها هو: الخير.. وليس الإعلام أو الإعلان عنها أو التفاخر بها، ولذلك فهو يتم عادة في صورة أقرب ما تكون إلى السرية.. وفي كل شيء حتى في عدم الكشف عن أسماء أولئك المنظمين الذين كانوا خلف الدعوة لقيامها من منظمات حقوق الإنسان والسياسيين ورجال الأعمال والإعلاميين والفنانين والمحامين والأطباء والمهندسين وغيرهم من مختلف الفئات والطبقات، والذين لم يعرف الإعلام أحداً منهم.. إلا عند وقوع أول أزمات تلك القافلة الإنسانية مع وصولها إلى ميناء 'نويبع' المصري على خليج العقبة.. ومعها أول وأعنف معاناتها، لتكشف وسائل الإعلام آنذاك.. بأن أحد منظمي هذه 'القافلة' هو النائب البريطاني (جورج غالاوي).
فعند وصول الباخرة.. أو قافلة شريان الحياة إلى ميناء 'نويبع'، وقد كانت أخبار سيرها تتواتر بالتأكيد - على الميناء، وتسبق وصولها إليه.. فهي 'باخرة' محملة بأطنان المساعدات وليست طائرة 'ميغ' أو 'إف 16'، ومع ذلك لم يُسمح لها بالدخول من الميناء.. لتصل إلى 'معبر' رفح براً، ورغم كل المحاولات التي بذلها منظمو القافلة.. إلا أن الإدارة المصرية تمسكت برأيها في عدم السماح لهم بدخول الميناء، وألزمتهم بالتوجه إلى ميناء 'العريش' المصري على البحر الأبيض.. وهو ما يعني أن على 'القافلة' أن تقوم بدورة كاملة حول جنوب سيناء وصولاً إلى خليج السويس فعبور القــــناة ومن ثم التوجه شمالاً إلى ميناء 'العريش'. وعلى أي عاقل أن يتصور حجم معاناة أفراد القافلة الذين يقارب عددهم الأربعمئة فرد أو أكثر في هذا المشوار الطويل المرهق والمثقل بـ'حمولته'.. بل وقيل إنه لابد لهم من أن يأتوا إلى ميناء 'العريش' إما من أحد الموانئ السورية أو التركية على البحر الأبيض.
وأياً كانت صحة هذا القول من عدمه.. فقد استسلم المشرفون على الرحلة لقرار عدم السماح لهم بالدخول من ميناء 'نويبع'، وتوجهوا كما طلبت السلطات المصرية منهم إلى ميناء 'العريش'.. وهم يكظمون غيظهم. وأي 'غيظ'.
مع وصول القافلة شريان الحياة 3 إلى ميناء 'العريش' من ميناء 'نويبع'، أو مروراً بأحد الموانئ السورية أو التركية.. كانت معاناة هؤلاء المتطوعين الإنسانية قد بلغت على ما يبدو مداها.. بعد أن طوحت بهم سلطات الموانئ المصرية.. من ميناء إلى آخر.. ومن بحر إلى آخر دون أن تنظر بعين التقدير لـ 'دوافعهم' الإنسانية النبيلة، ودون أن تستشعر حجم معاناتهم النفسية والبدنية وهم يتنقلون بسفينتهم من خليج العقبة إلى مياه البحر الأحمر إلى خليج السويس.. إلى البحر الأبيض، لتفاجئهم سلطات ميناء 'العريش' بمنع دخول ثلاثة وأربعين سيارة 'صالون' كانت في معية القافلة بحجة أنه (ليس لها أي طابع إنساني ولا تحمل أية مساعدات، ولم يتم إخطار السلطات بأن القافلة ستضم تلك السيارات)، وأنه.. تبعاً لذلك فـ (إن الجهات المصرية المدنية تتمسك بضرورة تطبيق الإجراءات سواء القانونية أو تلك المتبعة في دخول البضائع غير الإنسانية إلى قطاع غزة).. أي أن على منظمي القافلة أن يقوموا بدفع ما يترتب على إدخال تلك السيارات من 'جمارك' إلى إدارة الميناء، فكان طبيعياً أن تثور ثائرة الذين عبروا 'معبر رفح' من أعضاء القافلة، والمتجمهرين حولهم من أبناء القطاع الذين تواجدوا لاستقبالهم والترحيب بهم على الجانب الفلسطيني، وأن تتطور ثورتهم الشعورية إلى تماسك بالأيدي وتصادم مع رجال الأمن المصري على الجانب الآخر.. مما أسفر عن إصابات مؤسفة بين الجانبين بمن فيهم بعض متطوعي قافلة 'شريان الحياة' الذين سالت الدماء من وجوه بعضهم وتمزقت ملابس بعضهم.. حتى بدوا وكأنهم أعضاء في 'عصابة' وليس في 'قافلة إنسانية'، إلى جانب سقوط أحد الجنود المصريين شهيداً في هذا الانفعال الذي كان يمكن تجنبه من أساسه.. لو أن مصر كانت على العهد بها في تسامحها ونبالتها وسعة صدرها، وتقديرها لـ 'ظروف' أشقائها من أبناء غزة المحرومين من كل شيء، والمحتاجين لأي شيء، والمعذبين بــ 'حصار' عدوهم، والباكين المجروحين في أفئدتهم .. لأن 'شقيقتهم' الكبرى مصر تستكمل دائرة حصارهم بإغلاق معبر الهواء الوحيد الذي يتنفسون منه الحياة وأسبابها، وأعني به 'معبر رفح'.. بحجج تجاوزها الواقع وتخطتها الأحداث.
على أن أحداث 'القافلة' لم تقف عند هذا الحد.. بل تصاعدت إلى ما هو أسوأ وأغرب، عندما أمرت السلطات المصرية بمغادرة القافلة لـ 'قطاع غزة' في أقل من ثمانية وأربعين ساعة من دخول أعضائها.. مما ضرب أهداف 'القافلة' في مقتل، فإذا كان أهم أهدافها يتمثل في إيصال تلك المساعدات الغذائية والطبية والدوائية والحياتية لأبناء القطاع وأطفاله وشيوخه ونسائه.. فإن هناك هدفاً أسمى يتجاوز في أهميته إيصال تلك المساعدات لمنتظريها، والمتمثل في عقد اللقاءات والندوات الحوارية ونقلها عبر الفضائيات وهي تقام وسط الخيام وبقايا المنازل وحطامها... ليرى العالم 'الصورة الحقيقية' للحياة التي يعيشها أبناء غزة وسط هذا 'الحصار' الظالم الذي لم يعرف العالم مثله.. ولم يصمت أمام مثله على نحو ما فعل ويفعل العرب والمسلمون (الأشقاء والإخوة). فـ 'الصورة' وحدها.. تغني عن كل كلام وأي كلام يمكن أن يقال.
ثم كان ما هو أسوأ وأعجب.. عندما أصدرت النيابة العامة قرارها لسلطات الأمن بـ 'ضبط' سبعة من أعضاء قافلة شريان الحياة (ثلاثة بريطانيون، وأمريكيان، وماليزي واحد وكويتي واحد) للتحقيق معهم في الاتهامات الموجهة لهم.. وهي: (الشغب، والإضرار بالسيادة المصرية، وإحداث تلفيات في الميناء والمعدات والسيارات تقدر بنحو مليوني جنيه، واحتجاز، وإصابة عشرات الضباط والجنود المصريين).
ولولا جهود الساعات الأخيرة كما قالت مصادر صحافية التي بذلها القنصل التركي في القاهرة والسفير 'ياسر العلي' من الخارجية المصرية.. لما أمكن السماح بمغادرة أعضاء 'قافلة شريان الحياة' القاهرة.. على طائرة تركية إلى 'اسطنبول'، وبينهم الخمسة المطلوب (ضبطهم) من البريطانيين والأمريكيين.. أما 'الكويتي' و'الماليزي' فقد سمح لكليهما بالمغادرة لعاصمة بلده، لتنتهي أطول معاناة لـ 'قافلة' إنسانية جاءت بـ 'الخير' وللخير.. تلك النهاية 'السعيدة' المبللة بـ 'الدموع' والممزقة بعشرات 'الجروح'، ليقول رئيس منظمة حقوق الإنسان التركية الدولية 'بلانت يارديم'.. بكثير من الذكاء والدهاء.. عند وداعه مطار القاهرة: 'نحن نشكر مصر على احترامها لنا، وعلى تعاونها معنا من خلال رغبتها التي لمسناها لتقديم المساعدات لأهالي غزة ودعم الفلسطينيين'..!! أما الخارجية المصرية فقد استطاعت أن تلحق بالنائب البريطاني 'جورج غالاوي' وهو على سلم الطائرة.. لتبلغه قرارها بأنه 'شخص غير مرغوب فيه في مصر'.
انتهت أزمة القافلة.. وبدأت تصريحات الخارجية المصرية على لسان وزيرها أحمد أبو الغيط بـ 'أن مصر قررت منع أي قوافل مساعدات إنسانية لغزة من عبور أراضيها'، و'أن هناك آلية جديدة يمكن بمقتضاها تسليم المعونات للهلال الأحمر المصري بميناء العريش، على أن تقوم السلطات بتسليمها إلى الهلال الأحمر الفلسطيني داخل قطاع غزة'، ليظهر الأستاذ الدكتور محمد عبداللاه رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشعب المصري على قناة 'الجزيرة' الإخبارية.. قائلاً بـ'أن أمن مصر.. خط أحمر'، فيرد الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي من على منبره في خطبة الجمعة باكياً متعجباً.. وعلى قناة 'الجزيرة' نفسها: أتخشى مصر على أمنها القومي.. من غزة حتى تقيم هذا الجدار الفولاذي بعمق خمسة عشر متراً في الأرض بينها وبين غزة..؟
ليتساءل ملايين المحبين والعاشقين لمصر من المحيط إلى الخليج: ما الذي جرى.. لزعيمة العرب والعروبة..؟ ما الذي جرى لرائدة القومية والوحدة العربية في الستينات..؟ حتى تُفتن في مرتكزاتها السياسية والفكرية والقومية.. في مطلع القرن الواحد والعشرين على هذا النحو، وإلى هذا الحد..!؟
لقد كانت 'غزة' ومنذ حرب 48م.. وكأنها مدينة مصرية.. أو 'ولاية مصرية' على الأكثر. فما الذي حدث..؟ وما الذي تغير..؟
وسط دموع الملايين من محبي مصر المندهشين مما جرى ويجري.. ربما لا يبقى من ملاذ لهم غير تصريح المجبر أو المضطر 'إسماعيل هنية' رئيس وزراء السلطة الفلسطينية المقال: 'إنها.. سحابة صيف'.