محمد كريشـان


هولندا قلقة جدا هذه الأيام. قلق تلمسه في أوساط عديدة وإن بمفردات مختلفة لكنه مختصر في اسم واحد: غيرت فيلدرز، زعيم 'حزب الحرية' اليميني المتطرف الذي بنى كل خطابه الانتخابي والسياسي على معاداة الإسلام والمهاجرين في البلاد. هذا الحزب الذي نجح في أن يصبح جزءا من حكومة الأقلية التي تحكم البلاد حاليا، بعد أن استطاع مضاعفة مقاعده في البرلمان من 9 إلى 24، بات حديث الجميع الآن وسط توجسات كثيرة بأن تهدد سياساته العنصرية السلم الاجتماعي في البلاد وصورتها في أوروبا والعالم.
ومع أن صعود حزب بمثل هذه التوجهات في بلد يعيش فيه مئات الآلاف من المهاجرين، من بينهم بالخصوص ذوو الأصول المغربية والتركية من الجيل الأول والثاني والثالث، يعكس في المقام الأول مزاجا معينا في البلاد أبرزته صناديق الاقتراع في انتخابات حزيران/يونيو الماضي، إلا أن ذلك لم يحل دون أن تتحرك أوساط رسمية وشعبية مختلفة في هولندا للحد من انعكاساته السلبية. هنا يتجلى بوضوح الفصل بين الدولة والحكومة، فالهولنديون يبدون مهمومين بألا تتحول الخيارات الاجتماعية والثقافية لحكومة الأقلية الحالية إلى سياسة دولة. أكثر من ذلك تحرص بعض الجهات في المؤسسات الرسمية نفسها على النأي بنفسها عن هذه الحكومة عبر إظهار التبرم من توجهاتها والإعراب عن الأمل في ألا يطول تسيدها الساحة أكثر مما ينبغي.
لا أحد يتهم هذه الدوائر بمعاداة هولندا فهي ترى أن التحاق بلادهم بدول أوروبية بدأ يتفشى فيها فيروس العداء للأجانب وثقافاتهم لا يخدم سمعتها في الخارج بل ويمكن أن يؤثر حتى على مصالحها الاقتصادية مع أكثر من دولة. ولم تكتف هذه الدوائر بالإعراب عن هواجسها في غرف مغلقة بل شرعت في إعداد خطط وبرامج للتواصل مع الخارج وإعلامه لا سيما المؤثر منه في البلاد العربية والإسلامية. تمت مؤخرا دعوة عدد من الصحافيين من أقطار ومؤسسات مختلفة للحديث معهم في هموم هولندا الحالية ومحاولة استمزاج ما يمكن أن تحدثه الانتخابات الأخيرة من تداعيات في المدى القريب أو المتوسط. لم يكتفوا بالاستماع إليهم بل جمعوهم بقيادات حزبية هولندية مختلفة وشخصيات صحافية نافذة وذلك بالتوازي مع تعريفهم بنبض الشباب الطلابي عبر جمعهم في حوارات مع تلاميذ معاهد ثانوية داخل فصولهم وبحضور أساتذتهم من أجل فهم متبادل أفضل. وقد بدا هنا الحرص أن يكون هؤلاء من أوساط مختلفة فتم الالتقاء بتلاميذ في أحياء مهاجرين ذات أغلبية مغربية وتركية الأصول وكذلك بتلاميذ هولنديين أصليين.
وإلى جانب كل ذلك تم جمع هؤلاء الصحافيين بنشطاء في جمعيات ثقافية تهتم بالهولنديين من أصول عربية ومسلمة فتم الخوض معهم في كل ما يقض مضجعهم حاليا في بلد يقولون ان لم يكن كذلك قبل أحداث 11 ايلول /سبتمبر 2001 وخاصة بعد اغتيال بيم فوتن الذي سبق فيلدرز في أطروحاته المتطرفة قبل أيام من انتخابات 2002. ولا يخفي هؤلاء النشطاء توجسهم من استنتاج أن حصول حزب الحرية على 24 من مقاعد البرلمان المائة وخمسين تعني بالأساس أن 16' من الهولنديين يتبنون أطروحات معادية للمهاجرين وللمسلمين البالغ عددهم في البلاد زهاء المليون أي ما يقارب 6' من سكان البلاد.
كثيرون في هولندا لا يتمالكون عن الضحك عند ذكر اسم فيلدرز فهم يرونه رغم كل ما حصل عليه من مقاعد في البرلمان شخصية نشاز في حياتهم السياسية وينتقدون بشدة ما ينفقه دافعو الضرائب من أموال طائلة على حمايته الشخصية بسبب تصريحاته المستفزة والتي سيمثل بسببها أمام المحكمة بتهمة التحريض على العنصرية والكراهية.
صحيح أن هولندا قلقة ولكنها ليست مستسلمة وهي تعمل بمؤسسات دولتها ومجتمعها المدني النشيط على جعل مرحلة فيلدرز مؤقتة وعابرة. تحركها السريع من أجل ذلك وإصرارها عليه لافت للانتباه فعلا وللإعجاب كذلك.