حسين العودات


طرح أبو الأعلى المودودي، عالم الدين الهندي، مصطلح laquo;حاكمية اللهraquo;، في أربعينات القرن الماضي، ورأى أن الحاكمية (تنزع جميع سلطات الأمر والتشريع من أيدي البشر منفردين ومجتمعين، ولا يؤذن لأحد منهم أن ينفذ أمره في بشر فيطيعوه، فهذا مختص بالله وحده، لا يشاركه فيه أحد غيره)، وقال:

(لا أخضع لحكومة، ولا أعترف بدستور، ولا أنقاد لقانون، ولا سلطان عليّ لمحكمة من المحاكم الدنيوية)، واستنتج أن الدولة كافرة لأنها تعتدي على سلطان الله وحاكميته، والمجتمع جاهلي لأنه يقبل بهذه الدولة، وبالتالي فهو مجتمع كافر، ورأى أن (99؟) من المسلمين مرتدين وكفرة.

وقد استبق المودودي بأفكاره هذه استقلال الهند عن الاستعمار البريطاني، وتأسيس الدولة القومية (دولة الاستقلال) وذلك قبل أن تنفصل الباكستان عن الهند.

وخشي المودودي من استقلال الهند لأن دولة الاستقلال ستكون دولة قومية وديمقراطية وعلمانية، وهذه المبادئ الثلاثة كانت تخيف المودودي، لأن المسلمين الهنود، رغم أنهم كانوا ربع السكان، لم يكونوا يشعرون بأن الرابطة القومية تجمعهم وتوحدهم مع الهندوس، ولأن في الديمقراطية تخضع الأقلية لحكم الأكثرية.

ولن يكون المسلمون في هذه الدولة إلا أقلية، وأخيراً لأن العلمانية برأيه ستبعد الناس عن العلاقات الروحية، وبالتالي ستضعف الرابطة التي تربط المسلمين، ورأى أن انفصال باكستان هو الحل، واتفق بذلك مع الزعيم محمد علي جناح الذي حقق قيام باكستان المستقلة دولة للمسلمين، واختلف المودودي معه لأنه كان يريدها دولة إسلامية خالصة وليست فقط دولة للمسلمين، والحاكمية هي السبيل لذلك.

وكان المصطلح في البدء مجرد اجتهاد فقهي، ولكن الظروف المحيطة أدت بأن ينوعه المودودي ويعطيه مفاهيم جديدة، فكفّر الدولة والمجتمع، وفسر الآية الكريمة (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون).

وآيات أخرى مماثلة، معتبراً أن الحكم يعني السلطة والحكومة، بينما هو حسب القرآن الكريم يعني الفصل في الخصومات والقضاء بين الناس، ولم يستخدم ولا مرة بمعنى تولي السلطة أو ممارسة السياسة أو الإدارة أو القيادة.

تلقف المرحوم سيد قطب فكرة الحاكمية، وزاد عليها أن كفر الأمة بكاملها، ولم يكتف بتكفير الدولة والمجتمع، ورفض الاجتهاد والشريعة والفقه، واعتبر المجتمعات الإسلامية مرتدة باستثناء أيام أبي بكر وعمر، ثم تبنت جماعات (إسلامية) متطرفة أفكار الحاكمية ورأى قادة هذه الجماعات (منهم سعيد حوا، وفتحي يكن، ومحمد عبدالسلام فرج، وأحمد شكري مصطفى، وصولاً إلى أيمن الظواهري وأسامة بن لادن) مفهوم الحاكمية.

وقالوا إن المجتمعات الإسلامية كلها جاهلية وكافرة، ومن لم يكفر الكافر فهو كافر، وأباحوا لأنفسهم حمل السلاح، واستباحة دماء المسلمين وغير المسلمين وأموالهم، ونبتت هذه الجماعات كالفطر (التكفير والهجرة، الطليعة المؤمنة، الفريضة الغائبة، جند الله.. جند محمد...).

ورأوا أن الحاكمية تعني أن الدولة والحكومة والتشريع والتنظيم والقوانين والقرارات، يبت بها الله، وأن الناس أفراداً أو جماعات هم متفرجون منفعلون، ليس لهم حق التشريع أو التنظيم.

تصدت مؤسسات إسلامية عديدة لهذه الأفكار التي طرحها سيد قطب، وعلى رأسها لجان الأزهر ومؤسساته، كما تصدت لها جماعة الإخوان المسلمين المصرية بلسان مرشدها العام المرحوم حسن الهضيبي الذي قال:

إن الحاكمية لا مرجعية لها في القرآن والسنة، وإن الناطق بالشهادتين مسلم، يحرم دمه وماله، على عكس ما تقول حاكمية المودودي وسيد قطب، وإن الله ترك (لنا من أمور دنيانا ننظمها حسب ما تهدينا إليه عقولنا).

ومن يقول بفساد عقيدة الناس بما يخرجهم من الإسلام، هو الذي خرج عن حكم الله بحكمه الذي حكم به على عموم الناس، وأفاض الهضيبي في كتابه laquo;دعاة لا قضاةraquo; بنقد أفكار الحاكمية ومن حملها وبشر بها.

تتناقض أفكار الحاكمية تناقضاً كبيراً مع أفكار المرحوم حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، ومرشدها العام، الذي قال إن الإسلام (قرر سلطة الأمة وأكدها) وإن مبادئ الحكم الدستوري (تتلخص في المحافظة على الحرية الشخصية، بكل أنواعها، وعلى الشورى، واستمداد السلطة من الأمة، وعلى مسؤولية الحكام أمام الشعب. وهذا ينطبق كل الانطباق على تعاليم الإسلام ونظمه وقواعده).

لم يراجع قادة الحركات الإسلامية أفكارهم أمام هذا كله، بل على العكس ولغوا في غيهم، واستمروا في ممارساتهم العنفية، وزادوا وتيرة إرهابهم، وحللوا لأنفسهم ما حرمه الله من دم المسلمين وغير المسلمين وأموالهم، وبدؤوا عمليات التفجير والعمليات الإرهابية في كل مكان، وارتكبوا المجازر وشوهوا صورة الإسلام، لقد بدؤوا بعمليات إرهابية ضد غير المسلمين، ثم ضد بعض الطوائف الإسلامية، وأخيراً ضد جميع الطوائف المسلمة، وهذا ما شاهدناه ونشهده الآن.

كانت الدوافع الأولى لهذه الحركات دوافع عقائدية وإيديولوجية، لها أسبابها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعنوية، لكن أفكارهم لم تقنع عاقلاً ولا فقيها ولا متديناً، وهي بالأصل لا تعترف بالعقل والحوار والإقناع والتدين القائم، ووقعت نتائجها المُرة على الإسلام والمسلمين، خاصة أنها رفضت الحداثة والتحديث والعقلانية والتنوير وإصلاح الخطاب الديني.

ولم تؤمن إلا بالعنف، إلا أنها نسيت هذه الأفكار التي استظلت بخيمتها، ولم يبق من عقائدها سوى ممارسة القتل والتفجير والتدمير، مرة ضد المسيحيين ومرات ضد طوائف إسلامية، بحيث لم تسلم من أذاها طائفة، ويقدر عدد المسلمين الذين قتلهم أعضاء هذه الجماعات أو تسببوا بقتلهم عشرات آلاف الأشخاص، وعندما نتذكر قتلى الجزائر واليمن وأفغانستان وباكستان، نتيقن من معقولية هذا الرقم وصحته.

وهكذا بدأت الجماعات الإسلامية المتطرفة بالحاكمية، وانتهت بالتفجيرات والمذابح التي لا هدف لها، سوى أنها تعطي أسوأ الصور عن الدين الحنيف، وتظهره وكأنه (دين العنف والإرهاب).