سيد أحمد الخضر

في السياسة أنت غالبا على موعد مع المنغصات ويحاصرك النكد في الصباح وفي المساء، لأن التطورات اليومية مؤلمة في مجملها والتعليقات التي يقوم بها المحللون سخيفة جدا، وهي تكرار لما قالوه من قبل، أقصد العام قبل الماضي، ولن تضيع منهم أبداً فسيطلون على الشاشة في الألفية الرابعة ليعيدوها مرة أخرى، ربما لأن وكالات الأنباء والقنوات الفضائية والصحف تريدهم كذلك.
لكن السياسة لا تفرض عليك دائما أن تكون معلقا سخيفا تردد ما أسلفته من قبل، ففي بعض الأحيان يكون في الحدث المؤلم جانب من الطرافة حتى وإن كان شر البلية ما يضحك.. هذا النوع من الأحداث يكفي أن تنقله للقارئ فقط.. المهم أنك أمام موقف طريف في واقع صيغت مفرداته بالتناقض وتحكم مصيره النزاعات والفقر والجهل ويطوقه محيط من الفساد..
تصور أيها القارئ الكريم أن القمة الإفريقية الأوروبية التي عقدت الأسبوع الماضي ركزت على حقوق الإنسان والبحث العلمي والفضاء والحكم الرشيد!
أنتم تعلمون أن القمة ستعقد في طرابلس، لذلك لست أرى داعيا لتذكيركم بالمكان ودلالة المكان.. طبعا من حق الكثيرين القول إن احتضان ليبيا للقمة عامل مهم في إحراز بعض النجاحات، خصوصا على صعيدي حقوق الإنسان والبحث العلمي.
ولا يقلل من هذا إطلاقا دعاوى المعارضة الليبية ولا حتى تصريحات محمد البرادعي المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية عندما قال إن البرنامج النووي الليبي لم يكن يشكل خطرا.
لكن هذا ليس موضوعنا فنحن لسنا بصدد تعليق لأن دلالات ومعطيات انعقاد القمة جلية جدا فما يهمنا هو أن ننعم بقراءة هذا الحدث الذي قد لا يتكرر فتسونامي يتأهب للكر من جديد، وكوليرا هايتي لا تريد الرحيل، ومحمود عباس بصدد اكتشاف أن إسرائيل ليست حريصة بما فيه الكفاية على السلام..
يجب أن نبقى في إفريقيا إذاً.. صدق أو لا تصدق: القارة السمراء تناقش البحث العلمي وحقوق الإنسان وستتخلص من الفساد. غدا ستكون إفريقيا من دون حروب أهلية بعد القضاء على النزاعات العرقية وستصبح دول المنطقة واحة ديمقراطية ومنارة لحقوق الإنسان وتنطلق مركبات الفضاء الإفريقية قريبا، بعد أن يعود القادة مباشرة! كل هذا وارد جدا ولا يجب التشكيك في قدرة الإنسان الإفريقي العظيم.. الخطوة أتت مؤخرة طبعا لكنها في ذات الوقت تحول سريع ينم عن رؤية ثاقبة ونضج حتى وإن كان بعد سن اليأس.
لقد اكتشف الأفارقة أن نظراءهم الأوروبيين تغيروا بعد القمة الماضية بينما قاوم أصحابنا سنن الفناء واكتشفوا أيضاً أن أوروبا حريصة حتى على حقوق الحيوان، فكيف بالإنسان، وعندما تقلّهم طائرات الإيرباص سيفهمون أيضا أن البحث العلمي والتصنيع عاملان مهمان في التطور.. لقد كانت ملكة الفهم معطلة 50 سنة وتحررت الآن.
بعض المحللين يقولون إن العرب سيعرقلون مسارات التطور الإفريقي، فليس من السهل أن تتخلى الأمة المجيدة عن علم الميراث وما يتضمنه من أحكام الحجب والحرمان في حالة عدم الخلود الذي يؤمن به العرب.
هذا تشاؤم فقط لأنه لن يقف شيء في وجه تيار التنور وإذا أراد القادة الديمقراطية وحقوق الإنسان فلا بد أن يستجيب الشعب!
إفريقيا إذاً تغيرت، وبالأمس رفض القادة المساعدات الأوروبية إذا كانت مشروطة بأي تنازلات سياسية، وقالوا جميعا إن على أوروبا أن تساعد إفريقيا لزرقة عيون الأفارقة فقط أو تبتغي الأجر عند الله!
هذا الرفض الجريء يعني أن القارة مصممة على تعزيز استقلالها على الغرب وقادرة على خلق بديل يؤمن الكرامة لشعوب إفريقيا، ويعني أن دولنا بلغت درجة كبيرة من الوعي ولن تسمح للأوروبيين بابتزازها في المحافل الدولية.. إنها خطوة جبارة، ولعله لا يقلل من أهميتها أن القادة سيقبلون تلك المساعدات بشروط أوروبا أيضا وبصيغ ثنائية أكثر جدوائية لرؤساء القارة السمراء ودول أوروبا، فالمهم أن تتمنع إفريقيا حتى وإن كانت راغبة.