خالد الحروب

لعل إحدى مقايضات السياسة الأميركية في عهد أوباما كانت العمل على إيجاد حل للقضية الفلسطينية لأن ذلك سوف يسهل الاشتغال على بقية الملفات والقضايا، مثل إيران، وأفغانستان. ورؤية أوباما، وكثير ممن حوله، أعادت وضع القضية الفلسطينية في قلب السياسة الدولية في المنطقة، على عكس دحرها إلى الهامش كما كانت رؤية وسياسة سلفه بوش. ومنطق quot;الأوباميةquot; سهل وواضح وبراغماتي: ما لم يتم التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية فإنها ستبقى جرحاً نازفاً وعقبة كأداء في وجه الوصول إلى علاقات أميركية- عربية وإسلامية صحية. فالظلم الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني هو وقود كل التوجهات والحركات المتطرفة والمسلحة.

وإعطاء الأولوية للقضية الفلسطينية قُصد من إطلاق السياسة الأميركية تجاه إيران. فقد كان ولا زال الهاجس الأكبر للولايات المتحدة والغرب في المنطقة هو تطوير إيران لسلاح نووي يؤثر نوعياً وجوهرياً في ميزان القوى مع إسرائيل. ولكن خيارات أميركا والغرب إزاء ذلك الاحتمال كانت محدودة، ويد السياسة الغربية مكبلة بتجربة الحرب الدموية المدمرة في العراق. وهذا أغرى الإيرانيين للتوغل في سياستهم النووية وتحدي الضغوط الغربية. وكانت طهران تدرك تماماً أن الخيار العسكري غير وارد أو على الأقل مستبعد في ضوء الجراح المثخنة التي تعاني منها الولايات المتحدة في العراق. ولتخفيف تأثير تلك الجراح والفشل الذي رافقها فقد كانت الرؤية الجديدة تركز على تحييد القضية الفلسطينية والانتهاء منها. وفي هذه الحالة يسهل على العرب وحكوماتهم التعاون مع الولايات المتحدة إزاء الملف النووي الإيراني.

ما حدث وشهدناه جميعاً أن هذه الرؤية تحطمت بشكل شبه كلي على صخرة تعنت نتنياهو إقليمياً، وهجومات quot;الجمهوريينquot; في الكونغرس ودوائر صنع القرار بزعامة quot;تشينيquot; أميركياً. ولذا فإن أوباما الذي بدا حاسماً ومندفعاً وهجومياً في بداية رئاسته تحول إلى متردد ودفاعي. ثم بدأ في الانسحاب التدريجي من وعوده التي أطلقت تفاؤلاً واسعاً في العالم الإسلامي وفي العالم برمته. وأعلن أكثر من مرة أنه لم يكن مدركاً لتعقيدات حل الصراع العربي/ الإسرائيلي خاصة في جوهره الفلسطيني. ولكن بالتوازي مع التراخي والتراجع إزاء قضية فلسطين استمر التقدم والاندفاع والسياسة الهجومية إزاء إيران. والخيار العسكري الذي كان مُستبعداً في السابق أصبح يقترب أكثر من دائرة الخيارات المطروحة والممكن تطبيقها. ومعنى ذلك أن ربط الملفين الإيراني والفلسطيني كما كان الطرح الأولي في الرؤية الأوبامية يتفكك الآن.

إن التراجع الذي أصاب أوباما وسياسته أسبابه كثيرة وليس هذا مكان نقاشها. ولكن بالإجمال يمكن توصيف آلية ذلك التراجع بتضافر عوامل وظروف هائلة اشتغلت ضد اندفاعة أوباما. منها ما هو داخلي محلي مثل تدهور الاقتصاد والأزمة المالية، وحزبي quot;جمهوريquot; متمثل في الحملات التي لا تتوقف ضد أوباما وسياساته، ومنها ما هو خارجي دولي وشرق أوسطي إقليمي. ولكن كانت خلاصات الضغوط تلك تتم باتجاه واحد ولا يوجد ما يخفف منها أو يوازيها من الجانب الآخر.

عربياً، تُرك الملفان الفلسطيني والإيراني لإدارة أوباما للتعامل معهما، وبُني كثير من الآمال. وكالعادة المُحبطة لم يكن هناك أي ضغط عربي أو رؤية عربية تحاول استثمار فرصة قدوم رئيس مثل أوباما إلى سدة الحكم وصنع القرار في الولايات المتحدة. وكان الانتظار والتمني هو سيد المشهد. وما فشل العرب في صوغه هو سياسة مركبة ترحب بأوباما من ناحية وتحاول أن تساعده، لكن في الوقت نفسه تفرض شروطاً وضغوطاً موضوعية تكافئ وتعادل الضغوط القادمة من الاتجاه الآخر. وبطبيعة الحال كان المنطق المتبع، وكما في حالات مشابهة، يقول إنه ليس من الحكمة فرض ضغوط على الرئيس الجديد في الوقت نفسه الذي يفرض فيه الطرف الآخر ضغوطاً قاسية. ولكن هذا المنطق على صحته يعاني من التسطيح، إذ أن الضغوط والشروط العربية ينبغي أن تظل قائمة وبنفس حدتها خلال حقبة أي رئيس. فهذه الضغوط تساعده ولا تضعفه في واقع الأمر، لأنه يستخدمها في مواجهة خصومه أيضاً. والمهم الآن أن السياسة الأوبامية إزاء فلسطين تقف على مفترق طرق. بإمكانها أن تستعيد زخماً وتمتلك زمام المبادرة وتواصل ما وعدت به، وهنا تحتاج إلى إرادة وتصميم هائلين، وبإمكانها، وهو الخيار الذي يبدو الأكثر رجحاناً مع الأسف، أن تواصل ترددها وتراجعها إلى مربعات السياسة الأميركية التقليدية.

وما يمكن أن يقوم به العرب في قمتهم القادمة في طرابلس هو إعادة ترتيب أوراق ضاغطة على إدارة أوباما، يستطيع أن يستخدمها ضد الداخل والخارج. والتفكير في تشكيل وفد على مستوى القادة، ثلاثي أو رباعي، يزور واشنطن ويعرض الرؤية العربية عليه. واستخدام الأوراق العربية سواء إزاء الملف الإيراني أو الصيني أو المساهمة العربية في تخفيف الأزمة المالية العالمية. وما ينبغي أن يدركه النظام العربي والقادة العرب هو أنه إن لم يحدث تقدم حقيقي في حل القضية الفلسطينية في عهد أوباما فإنه من الصعب تخيل حدوث ذلك في عهد أي رئيس آخر. كما أنه من غير المتوقع أن ينجح أوباما في الفوز بفترة رئاسة ثانية. وهذا يجب أن يُستخدم لتشجيعه على خوض سياسة هجومية مبدئية غير خاضعة كلياً لحسابات الانتخابات القادمة وسيطرة ضغوط اللوبي اليهودي. وفوز أوباما في الرئاسة الأميركية، وكما نعلم جميعاً، جاء على خلفية استثنائية تمثلت في تدهور صورة أميركا خارجياً وداخلياً بسبب سياسات بوش في العالم وحروبه الدموية. فأميركا أرادت أن تتطهر من عهد بوش وانتخبت رئيساً quot;ديمقراطياًquot; وأسود. والآن تبدو أميركا وقد استعادت أنفاسها وثقتها وتشعر بأنها استخدمت أوباما وظائفياً وحقق لها ما أرادت. فلا داعي له ولسياساته.