عثمان محمود الصيني

اختص القسم الثاني من أمنيات النخب في مجلة الرائد عام 1381ه (1962م) بالشأن العربي والدولي، وفي حين مازال بعضها حتى الآن في إطار الأمنيات إلا أن جزءا منها تحقق وانتقل إلى مراحل متقدمة وبعضها الآخر تغيرت فيها الظروف والأحوال إلى الأحسن أو الأسوأ حسب تقلبات الأيام. فعلى المستوى العربي استأثرت قضية فلسطين بالنصيب الأكبر من الأمنيات، وكان وقتها قد مضى أربعة عشر عاماً على حرب فلسطين التي وقعت بين الجيوش العربية والميلشيات العسكرية اليهودية بسبب قرار الأمم المتحدة تقسيم فلسطين إلى دولة يهودية نسبتها 56٪ ودولة عربية فلسطينية نسبتها 43٪ وتدويل منطقة القدس بنسبة 1٪ فكانت اتجاهات أمنيات المشاركين تتوزع بين المطالبة السلمية بأن laquo;ترد حقوق الفلسطينيين إليهم كاملةraquo; وlaquo;عودة اللاجئين إلى ديارهمraquo; ، وبين الغضب العنيف laquo;تزول إسرائيل من الوجود، ومحو الصهيونية محواً لا رجوع بعدهraquo; وأمنيات أخرى مشوبة بالعجز laquo;أن يضل صاروخ من صواريخ التجارب النووية طريقه ويسقط على رأس الحية إسرائيلraquo;، فما الذي حدث في قضية فلسطين بعد هذه الأمنيات؟ بعدها بخمس سنوات جاءت هزيمة الخامس من يونيو 1967 وضاعت معها الجولان والضفة الغربية وغزة وسيناء وتبعتها حرب الاستنزاف التي استنزفت مقدرات الدول العربية وأعصاب وعواطف شعوبها، ثم جاء العبور عام 73 وبعد ذلك بدأت مرحلة مباحثات مدريد 1991 ثم اتفاقية أوسلو 1993 ثم خارطة الطريق وأخيراً المبادرة العربية، ومازالت إسرائيل ترفض إدراج عودة لاجئي 48 في المفاوضات، والدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة لا تمارس سيادتها الكاملة ، وحل الدولتين الذي أقرته الأمم المتحدة قبل 63 عاماً في قرار التقسيم ورفضه العرب ترفض إسرائيل الآن القبول به رغم التنازلات الكبيرة في النسبة، وعلى المستوى الداخلي معارك بينية فلسطينية أو عربية في لبنان وما تبعها من مذابح صبرا وشاتيلا وتل الزعتر ثم ترحيلهم إلى تونس واشتباكات الأردن وأخيراً حرب الفصائل الفلسطينية بين فتح وحماس والجبهة الشعبية.

هذه الأمنيات تظل أمنيات فردية تعكس رؤى أصحابها وخلفياتهم ولكنها في الوقت نفسه حين تصدر عن النخبة فإنها تعكس المناخ العام والسياق الذي تدور في فلكه

الأمنية الثانية العربية هي أن توفق الجزائر لأخذ استقلالها غير منقوص وهو ما حصل وأصبحت الجزائر من الدول العربية المؤثرة والمهمة في كثير من الأصعدة، وتمنى بعضهم أن laquo;تتحد كلمة العرب ليزدادوا قوة ومنعةraquo; وهذه الأمنية تأتي في ظل ضعف العمل العربي المشترك ومشكلات كبيرة تعصف بالدول العربية فالعراق يرزح تحت الاحتلال والسودان تمزقه الاضطرابات ودعوات التقسيم وانفصال الجنوب ومشكلة دارفور، والصومال عصفت به حرب أهلية طاحنة لا تهدأ إلا لتثور من جديد، ودعوات انفصالية للحراك الجنوبي في اليمن مع مشكلات الإرهاب في مأرب وأبين وتمرد في صعدة ، وجزر إماراتية تحتلها إيران، ومشكلة الصحراء التي شرخت الاتحاد المغاربي، وخلافات عربية-عربية، وعلى الأفق المشرق مبادرة خادم الحرمين الشريفين في قمة الكويت للم الشمل العربي والتسارع المطرد الذي يشهده مجلس التعاون لدول الخليج العربي بعد سنوات من البطء والخلافات التي تطفو على السطح بين فترة وأخرى.

وعلى المحيط الإقليمي تمنى الشاعر محمود عارف laquo;أن تعطى الدول الأفريقية كالكونغو وأنغولا الأمل الذي تنشده في معركتها الدائمة ضد الاستعمار، وأن توفق دول المؤتمر الأفريقي في تأكيد الروابط بينها للوقوف صفاً واحداً أمام السعار الغربي، وأن يكون التوفيق بداية التعاون الوثيق بين الآسيويين والأفريقيين الأحرار أو من يسمونهم جبهة الدول غير المنحازة للدفاع عن مبادئ الحياد الإيجابي حتى يرتفع صوت الحرية المدوية مطالبا بحقوق الإنسان على ضوء الميثاق الذي وقعت عليه دول الشرق والغرب المشتركة في منظمة الأمم المتحدةquot;، وما حدث على مدى خمسين عاماً مضت أن الدول الأفريقية نالت استقلالها وربحت معركتها ضد الاستعمار، كما ربحت معركتها ضد سياسة الأبارتهايد أو التمييز العنصري وبخاصة في روديسيا التي أصبحت زيمبابوي وجنوب أفريقيا التي أصبحت دولة دون انقلابات واستضافت هذه الأيام مسابقات كأس العالم، ولكن في مقابل ذلك توزعت الولاءات الأفريقية بين المعسكرين أيام الحرب الباردة بين رأسمالية وشيوعية ودمرت مواردها واستقرارها الانقلابات وحروب التطهير العرقي في رواندا وبوروندي بين الهوتو والتوتسي ، وفي ليبيريا ونيجيريا وتشاد ودارفور وأخيراً دخولها تحت سيطرة الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات.

وعلى الصعيد الإسلامي تمنى رحيمي وقستي laquo;أن تتوثق الروابط بين الأمم الإسلامية لينعموا بحياة عز ومجد ورفعة وتضامن وتتوحد كلمتهم ليكونوا يداً واحدة قويةraquo;، لكن ما حدث أن الدول الإسلامية شأنها شأن الدول الأفريقية مرت باستقلال وانقلابات وحروب بينية وانفصال باكستان الشرقية عن الغربية ، وتأسيس دولة بنغلاديش وصعود قوى إسلامية مؤثرة عالمياً مثل ماليزيا وتركيا أو مؤثرة على الاستقرار الإقليمي مثل إيران بعيداً عن دور منظمة المؤتمر الإسلامي الشبيه في ضعفه بدور الجامعة العربية.

خمسون عاماً بين أمنيات أطلقها الأدباء والكتاب والمسؤولون ورجال الأعمال وواقع نعيشه اليوم، وأجيال عبرت بين 1381 و1431ه ومرت أحداث جاهد فيها أناس بشرف وصدق لرفعة أوطانهم وسعادة أمتهم ومغامرون سياسيون وعسكريون وآخرون انتهازيون، وكان الثمن فيها جميعاً غالياً جداً سواء أكان من الإنسان وكرامته أم من مقدرات الوطن وموارده.

وهذه الأمنيات تظل أمنيات فردية تعكس رؤى أصحابها وخلفياتهم ولكنها في الوقت نفسه حين تصدر عن النخبة فإنها تعكس المناخ العام والسياق الذي تدور في فلكه هذه الأماني، وهي أيضاً ليست دراسات أو خططاً خمسية أو عشرية حتى يمكن التحقق بصورة علمية من مدى التقدم أو النكوص أو درجة النجاح أو الإخفاق فيها، ولكنها كما تحمل طرافة في المقارنة ومتعة في استعراض التاريخ على مدار نصف قرن فهي تحمل مؤشراً عما يمكن أن يحصل في هذه المدة وما يمكن إنجازه وكيف استطاعت اليابان أن تصبح عملاقا اقتصاديا بعد عقدين من هزيمتها في الحرب العالمية الثانية ، وكيف استطاع الاتحاد الأوروبي أن يكون وحدة اقتصادية وسياسية بعد الحروب الكبيرة والكثيرة التي مزقت دوله وأشعلت العالم.

بدأت الحياة العصرية في التسارع ، والتغييرات أصبحت متلاحقة ونقضت فلسفة العولمة فلسفة الإيقاع المحلي، فلم تعد المناطق الصحراوية تسير على إيقاعها البطيء الرتيب وإنما ارتبطت جميعها بالعالم ولذلك لا نحتاج إلى خمسين عاماً أخرى كي ترى الأجيال اللاحقة أمانينا وأحلامنا، ولو وضعنا أحلامنا وأمنياتنا هذا العام ثم أعدنا قراءتها بعد عشرة أعوام -إن كتب الله لنا الحياة- هل نرى أننا اقتربنا من أحلامنا أم تبقى الحال على ما هي عليه وعلى المتضرر اللجوء إلى التاريخ ونكتشف أننا مثل جِمال السليط.؟