جميل الصيفي

لبنان ذلك البلد الصغير الحجم والمتعدد الثقافات والأعراق والمعروف عنه أنه ساحة لتحالفات الرمال المتحركة فحلفاء اليوم هم أعداء الأمس، وأعداء اليوم هم حلفاء الماضي في لبنان، وكأنه كتب عليه أن يكون مكانا لتصفية الحسابات المحلية والإقليمية والدولية وتشن فيه بل ومنه الحروب بالوكالة منذ استقلاله وحتى حينه، ومن المعروف عن لبنان أنه كان ملجأ لكل من يبحث عن مكان يحميه حتى أولئك الخارجون على القانون منذ قديم الزمن وحتى اليوم.
شهد لبنان منذ استقلاله في منتصف الأربعينات من القرن الماضي العديد من الحروب كانت كلها تأخذ اسم الحرب الأهلية ولكنها كانت حروبا إقليمية بل قل دولية بالوكالة خلال فترة الحرب الباردة وما بعدها وهي التركة التي آلت إلى العالم العربي بعد انتهائها في أوائل التسعينات، فعلى جبال وسهول ومدن وقرى وضيعات لبنان جرت معارك لا ناقة للبنان ولا جمل فيها ولكنها حملت اسم حرب لبنان الأهلية، حيث كان القادة الظاهرون لتلك المعارك لبنانيي الهوية ولكنهم واجهة لقوى أخرى إقليمية أحيانا تنفذ أجندة قوى دولية تحرك الأمور من خلف الستار كما حدث في منتصف الخمسينيات التي أطلق عليها الحرب الأهلية اللبنانية حينما اندلعت تحت اسم الإطاحة بكميل شمعون، ولكنها كانت تجسيدا لصراع المحاور العربية التي بدورها كانت تحرك من قبل قوى دولية، فكان اليساريون في لبنان مدعومين من قبل التيار اليساري في المنطقة بقيادة مصر الناصرية وسوريا، وكانوا يتزودون بالأسلحة والأموال من الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت، بينما كان اليمينيون يتلقون الدعم والمدد من السلاح والمال من أميركا ودول الغرب إلى أن وضعت تلك الحرب أوزارها في وقت لاحق في أواخر الخمسينيات بعد التوصل إلى اتفاق بين القوى التي كانت تقف وراء ذلك النزاع، والأمر الملفت للنظر أن تلك الحروب كانت تنتهي بنتيجة التعادل، بل لا غالب ولا مغلوب، وهو شأن كافة الحروب اللبنانية، نظراً لأن تركيبة البلاد الطائفية والثقافية والعرقية لا تسمح بتغلب فريق على آخر، لأن معنى ذلك انهيار لبنان واختفاءه عن الخارطة، وهو ما لا يرغب فيه أي من الأطراف، بل إن الكل كان وما زال يسعى إلى ما يسمى بالتوازن الطائفي والعرقي والديني في تلك البلاد على أمل أن يستحوذ كل أصحاب النفوذ على فريق ليعمل بالوكالة عنهم، وهناك أمر متفق عليه بين كافة المعلقين والمراقبين بأن لبنان ساحة صراع بين أجهزة استخبارات كافة دول العالم بدءاً من أميركا وانتهاء ببوركينا فاسو وتيمور الشرقية، وهو أمر يقر به كافة السياسيين اللبنانيين.
وما كادت الحرب الأهلية الأولى في لبنان تضع أوزارها حتى لاحت في الأفق نذر حرب أهلية أخرى في بداية السبعينيات والتي ابتدأت باصطفاف ما يعرف بالقوى الوطنية والإسلامية اللبنانية ومعها القوات الفلسطينية في لبنان وبين القوات اللبنانية اليمينية المسيحية مثل حزب الكتائب وحزب الوطنيين الأحرار وقوات الأرز التي أدت إلى اندلاع حرب أهلية لبنانية ضروس تدخلت فيها القوى الإقليمية بما فيها إسرائيل من وراء حجاب تارة وبالتدخل الصريح بالجنود والسلاح تارة أخرى، وتخللت تلك الحرب حرب أخرى شنتها إسرائيل على قوات المنظمات الفلسطينية في العام 1978 تلاها الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان، ومن ثم احتلال بيروت؛ لتكون أول عاصمة عربية تسقط في أيدي محتل قبل سقوط بغداد بأكثر من عشرين عاما، والتي انتهت بمحاصرة القوات الفلسطينية في بيروت، ومن ثم ترحيلها عن بيروت في العام 1982، بينما لم تضع الحرب الأهلية اللبنانية أوزارها إلا باتفاق الطائف في أواخر الثمانينات لتضع حداً لحرب وتعدّ لحربٍ أخرى بناءً على رغبة اللاعبين الإقليميين والدوليين، وفي فترة ما بعد رحيل القوات الفلسطينية، سطع نجم المقاومة اللبنانية الوطنية والإسلامية وكان أبرزها بروز منظمة حزب الله كرائدة للكفاح ضد الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، وتمكنت من إيقاع ضربات موجعة بكلٍّ من القوات الدولية خاصة الأميركية في حادثة تفجير معسكر قوات المارينز في جنوب لبنان التي أوقعت مئات القتلى في صفوف القوات الأميركية، مما دفع بالحكومة الأميركية لسحب قواتها من لبنان، واستمرت قوات حزب الله في توجيه الضربات الموجعة للقوات الإسرائيلية، وما كان يعرف بميليشيات سعد حداد، ومن بعده أنطوان لحد لتكون هذه الحرب في هذه المرة حربا بالوكالة بين إسرائيل والغرب من خلفها، وبين إيران والقوى المناهضة لإسرائيل والتي أدت إلى انسحاب مذل للقوات الإسرائيلية من جنوب لبنان، لتبدأ مرحلة أخرى فيما يتعلق بموازين القوى الإقليمية مع تعزيز قدرة وسمعة قوات حزب الله التي استطاعت الصمود في وجه الآلة العسكرية الإسرائيلية في صيف العام 2006 وتمرغ أنف الجيش الإسرائيلي في التراب باعتراف القادة العسكريين والمدنيين الإسرائيليين.
لكن يبدو أن إسرائيل لم تكد تتجرع كأس الهزيمة المرّة -وهو أمر لم تعتد عليه خلال كافة حروبها مع العرب- حتى بدأت تعد العدة منذ انتهاء حرب عام 2006 من أجل الثأر لكرامتها المهدورة، وتستعد لجولة جديدة من الحرب ضد حزب الله، وربما سوريا، لكن اليوم ليس الأمس ورغم ما ساقته إسرائيل من ادعاءات بتزويد سوريا لحزب الله بصواريخ سكود، وهو ما يعتبر خطاً أحمر بالنسبة لإسرائيل التي تعد العدة للهجوم على المنشآت النووية الإيرانية، ولكنها تخشى بشكل كبير من قوة حزب الله التي -وباعتراف كافة المحللين والمراقبين- باتت تمتلك ترسانة من الصواريخ أكبر عددا وأفضل نوعا مما كان لديها قبل الحرب الأخيرة.
هناك سيناريوهان محتملان يختبئان في رحم الأيام القادمة، أولهما مهاجمة إسرائيل لحزب الله مرة أخرى من باب رد الاعتبار لهيبتها وكرامة جيشها لحرمان لبنان من حليف يرد على إسرائيل إن هي هاجمت إيران في المستقبل، وثانيها قيام إسرائيل بالهجوم على المنشآت النووية الإيرانية، وفي كلتا الحالتين لا توجد ضمانة بعدم خروج الأمور عن السيطرة واندلاع حرب إقليمية جديدة تأكل الأخضر واليابس، لأنها من وجهة نظر البعض حرب بقاء، والخشية من الزوال عن الوجود من وجهة نظر إسرائيل على الأقل، فهل ستندلع شرارة الحرب القادمة من لبنان هذه المرة أيضا، سؤال ستجيب عليه الأيام أو الأشهر القادمة.