راسم المدهون

هل تحتمل الحقوق المدنية لفلسطينيي لبنان اللاجئين كلّ هذا الذي نقرأ ونسمع؟
يبدو السؤال حائرا متلعثما في ضوضاء سياسية تطلق قذائف في اتجاهات عديدة ولا توفر حتى الأوهام، والتخرُصات، وبقايا الريبة الطائفية وهواجسها التي من طبائعها تضخيم الأشياء.
الأسبوعان الماضيان كانا حافلين ببعض هذا، بل بالكثير منه، حتى بالخارج عن النص الطائفي البائس ذاته، إلى الدرجة التي بات منطقيا ومفهوما أن نتوقع البعض أن يطالب بشكل صريح واضح بترانسفير لفلسطينيي لبنان.
نقول ذلك ونحن نشهد كرنفال الكراهية المعتم، والذاهب بالجدل الصحي نحو ثقافة الحرب اللبنانية، حتى على الرغم من أن حال الفلسطينيين في لبنان كان بائسا منذ البدايات الأولى، ورغم يقين لاعبي السيرك السياسي أنهم يقلبون المعادلة بإطلاق تخوفاتهم من quot;التعدّياتquot; الفلسطينية على الدولة والسلم الأهلي، ومحاولتهم إقناع الآخرين أن حجب الحقوق جاء بسبب تلك التعدّيات، وليس العكس.
الفلسطينيون في لبنان هم في غالبيتهم من المسلمين، وهنا بالذات مشكلتهم مع بعض من الذين لا ينامون من هاجس تجنيس الفلسطينيين، وإدخالهم طائفة أخرى في المعادلة اللبنانية.
شكرا للأستاذ وليد جنبلاط، العروبي الذي أطلق مشروع منح لاجئي لبنان الفلسطينيين حقوقهم المدنية، وفتح باب الجدل والحوار حوله.
وشكرا لدولة الرئيس سعد الحريري الذي يلقي بثقل تيار المستقبل مع إنصاف الفلسطينيين، وانتشالهم من غيتوات البطالة والعوز واليأس، والبحث عن منافذ للهجرة.
وشكرا لكل القوى الديمقراطية اللبنانية التي دعمت وتدعم ذلك كلّه.
ولكن، عن أية حقوق مدنية نتحدث؟
وكيف هي حال الفلسطينيين في لبنان؟
في الراهن هناك أكثر من سبعين مهنة وحرفة يحظر على الفلسطينيين العمل بها رسميا.
أما مهن النخبة، كالأطباء والمهندسين والمحامين فلها حساباتها الخاصة : هذه المهن الاختصاصية يحتاج امتهانها لعضوية النقابات التي تمثّلها، والتي تنحصر عضويتها باللبنانيين. وبكلام مباشر لا يستطيع من نال شهادة الطب أو الهندسة أو القانون من الفلسطينيين أن يمارس مهنته على الأراضي اللبنانية باعتباره أجنبيا . هنا بالذات لا يلحظ القانون اللبناني أية خصوصية للفلسطيني تمنحه استثناء عن بقية الأجانب مع علمنا أن لا أجانب أصلا يقصدون لبنان للعمل كأطباء أو مهندسين أو محامين، ما يجعلنا نتيقن أن المعنيين بالمنع هم من الفلسطينيين حصرا.
أما الذاكرة الشعبية الفلسطينية فلا تزال تحفظ الكثير من أشكال الحصار والتضييق إن لم نقل التنكيل التي تعرض لها أبناء المخيمات منذ عام 1948 وحتى دخول التنظيمات الفلسطينية إلى تلك المخيمات، وتحوُلها إلى quot;جزر أمنيةquot; كما يعلن بفزع رافضو منح الفلسطينيين حقوقهم المدنية. فعلى سبيل المثال لا الحصر ظل الفلسطينيون في مخيماتهم مجبرين على تسجيل أي ضيف يأتيهم من مخيم آخر عند الدرك ومخافر الشرطة، وظلّ ممنوعا عليهم ترميم بيوتهم، أو تعليق هوائي تلفزيون !!!!
على أن هذا كلّه تفاصيل تهون أمام المعضلة الكبرى: التملُك والتوريث.
هنا بالذات تمنع القوانين اللبنانية الفلسطيني من امتلاك بيت، أيّ بيت، بما في ذلك بيته في المخيم، أما عند وفاته فلا يحقُ لورثته الانتفاع به كمسكن، ما فتح الباب لأشكال مشروعة من التحايل ومنها التنازل عن البيت لجهة لبنانية معترف بها تقوم بدورها بالسماح لهم بالبقاء في البيت، وكان من بين تلك الجهات الأوقاف الإسلامية وغيرها.
لا أظن أن حديث الحقوق المدنية للاجئين الفلسطينيين في لبنان مناسبة لإثارة الخروقات الأمنية الفلسطينية لهيبة الدولة اللبنانية سنوات السبعينات، وحتى اجتياح إسرائيل للبنان وبيروت صيف العام 1982، فلذلك الحديث مقام آخر، ونحن لسنا ممن يبرّرون تلك التجاوزات أو يدافعون عنها، رغم أنها للحقيقة جاءت لاحقة للظلم الفادح الذي عاشه لاجئو لبنان الفلسطينيين لسنوات طوال.
الفلسطينيون في سوريا الجارة الأقرب للبنان يتمتعون بكلّ الحقوق التي يتمتع بها المواطن السوري، ويؤدون الواجبات ذاتها، فهم يحق لهم العمل في الوظائف الحكومية الرسمية، وامتلاك بيت ومحل تجاري، مثلما يؤدّون خدمة العلم جنودا وضباطا في جيش التحرير الفلسطيني، ولم نسمع طيلة اثنين وستين عاما عن شكل ما من أشكال التمييز ضدهم كفلسطينيين بالرغم من تقلّبات سياسية عديدة عاشتها سوريا خلال تلك العقود الطويلة.
سيقول كثر هنا أن للبنان خصوصياته التي لا يشاركه فيها بلد عربي آخر، وهو قول لا يخلو من وجاهة في بعض وجوهه، ولكنه أيضا قول يساق لتبرير حرمان غير شرعي ولا إنساني: هل المطالبة بمنح الحقوق المدنية ستخلُ بالتوازن الطائفي؟
هنا بالذات ستنطلق مدافع الرافضين بشعارات رفض التوطين، والتحذير منه، وستنطلق روايات لا تحصى عن مشروعات باتت قيد التنفيذ لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان .
من يستمع لهذه الحجج سيتذكر أنها كانت موجودة منذ البدايات الأولى للنكبة الفلسطينية الكبرى : منذ مطلع سنوات خمسينات القرن الفائت انطلقت تحذيرات جهات محددة لم تتغير إلى اليوم من مخاطر التوطين، وظلّ هاجس التوطين حاضرا في أدبيات سياسية وثقافة تربوية داومت عليها تلك الجهات، حتى باتت جزءا رئيسا من تراثها.
ما الحل إذن في استعصاء كهذا؟
هنا أعتقد أن الجدل اللبناني اللبناني يحتاج إلى دور عربي: لا بد للخروج من النفق المظلم من معادلة جديدة لأوضاع الفلسطينيين في لبنان، معادلة بضمانات عربية تنصف اللبنانيين وتطمئن من يحملون هواجس الخوف والحذر على أن تلك الحقوق لا تشكّل مسّا بالسيادة اللبنانية، ولا تشكّل خروجا على قوانينها.
هل نحتاج إلى طائف ودوحة فلسطينية لبنانية؟
ربما نعم.
نقول ذلك ونحن نرى ونسمع استنفار البعض لرفض الحقوق المدنية للفلسطينيين، وتصعيد الرفض لحد اعتباره ضمانة لاستقلال لبنان وسيادته، وهي حالة لا نراها قابلة للتغير بدرجة تسمح بسن قوانين جديدة ترفع الظلم عن الفلسطينيين في لبنان، وتمكنهم من ممارسة حياتهم بدرجات أعلى من الحرية والقدرة على الحركة، وتحصيل قوت يومهم بكرامة.
ذلك وحده يفتح الباب لإعادة تأهيل المخيمات الفلسطينية، وزجها في الحياة المدنية العصرية، وإنهاء البطالة، ومنح شباب المخيمات الأمل والطمأنينة.
أما غير ذلك فليس سوى التنابذ وتأجيج الخلافات وإعادة أجواء ومناخات مراحل سياسية لعلّها الأسوأ في تاريخ لبنان الحديث كلّه، وذلك بالتأكيد ما لا يتمناه أحد في الشعبين اللبناني والفلسطيني على السواء.