محمد خليفة

بالرغم من مرور عام ونصف العام على تولي الرئيس الأمريكي باراك أوباما الرئاسة، إلا أنه لم يعد أحد يعلم متى سيعود الأمن والاستقرار إلى العراق وأفغانستان وفلسطين وتتوقف أحداث العنف الدامية التي تحصد الأرواح من المدنيين والجنود، وتنتهي فوضى القيم والمعايير التي لم يشهد لها التاريخ الإنساني مثيلاً من قبل، عاكسة فشل وإخفاق المنظومات الفكرية المعاصرة وانحرافها عن السياق الحضاري للواقع والتجربة البشرية المعتمدة على تلك الأفكار .

وكان الفيلسوف ايمانويل مونييه قد دان الفوضى السياسية والاجتماعية للعالم بسبب النزعة الفردية ال ldquo;إنديفيديواليزمrdquo; القائمة على طلاق الروح مع المادة وفصل الإنسان عن جذوره الروحية بعد إحلال الطبقة المادية التي تقدس القوة وتنبذ القيم الروحية . وتعتبرها بمثابة إهانة للعقل، وإنكاراً للقيمة الخاصة بالحياة، والطغيان على النفوس في ظل العيش على تراكمات الماضي وموروثاته، بالرغم من أن الماضي لا يمكن تغييره، وهذا حق من ناحية مادية تاريخية، فهو مولج في الحاضر وسط العنف المتصاعد والفائق على نحو يكاد يعيد البشرية إلى العصور الوسطى، عندما كان العقل الإنساني مستعبدا لسلطة خارجة عنه فلا يملك حرية التفكير إلا في النطاق الذي حدده النقل من حيث إن ثمة أموراً لا يليق بالعقل الخوض فيها لأنها من خصائص الإيمان .

واليوم أصحاب البرهان الكوسمولوجي الذين ينشرون التطرف يريدون تجسيد تصورات صور العصور الماضية بهدف الإطاحة بمنجزات الحضارة وإشعال الفتن والصراعات بين القيم ومنطق الحداثة باعتبار أن تاريخ الأمة العربية والإسلامية هو التاريخ الشامل لجميع المفاهيم المنفردة عبر العصور في ضوء الظروف التاريخية، ومن منطلق ديالكتيكي انفعالي المنحل بين الذاتية والعدل الأستاتيكي مناقضين بذلك منحى التاريخ السياسي وتاريخ الأفكار وغير ذلك من صنوف الدراسات التاريخية للأمم الأخرى، والتي تؤكد وحدة النظم الفكرية في تطورات القيم الإنسانية الأساسية كافة في المجتمعات المدنية منها الفضائل المتعلقة بالملكات العقلية في الإنسان والحكمة الأخلاقية وعلى رأسها الفضائل الأصلية، الشجاعة والعدل، ونبالة النفس والواجبات من حيث الذوات التي تجاهها تكون الواجبات وتجاه الغير وواجبات تجاه الذات ودور الضمير الاجتماعي في تكون المعايير الأخلاقية والعدل الديناميكي والعدالة التعويضية، أي احترام الحق والصدق والوفاء بالوعود والتعهدات والعقود والعدالة التوزيعية التي تنظم العلاقات بين المجتمع والمساواة أمام القانون من الحقوق الأساسية في المجتمعات .

ويعتقد بعض الإسلامين أنهم يمتلكون الحق الكامل والفضيلة التامة من دون غيرهم في هذا العالم، في حين يمارسون الإقصاء والتفكيك المنسوج من كل الحواجز وكل المواقع، فيتغاضون عن مساوئ الماضي وبالأخص في القيم الأخلاقية التي تتضمن الفعل في الواقع الموضوعي ما جعل الأمة الإسلامية تسير في اتجاه مضاد لحركة التاريخ . وكان سقوط الخلافة العثمانية التي استمرت في حكم العالم الإسلامي على مدى 625 عاماً بمثابة الهزيمة للمسلمين، وبعد ذلك أدى قصور المشروع القومي إلى طرح المشروع القطري كبديل والذي أوقف نمو المشروع القومي وضرب امتداداته الإقليمية، في حين حملت الدول المستقلة من الاستعمار في تكوينها كافة عناصر التطرف الاستعماري وتراكمات الحكم العربي والبنية الهرمية الجماعية المهيمنة على الفردية . فحرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 كرست الأوتوقراطية (الاستبدادية) العربية ورسخت الثيوقراطية (الحكومة الدينية)، وأما حرب لبنان الأهلية والحرب العراقية - الإيرانية فقد جعلتا الروح الوطنية القومية تتراجع لمصلحة الطائفية والمذهبية .

كما شهد عقد السبعينات أكبر انتكاسة للمشروع الوطني القومي من خلال معاهدة كامب ديفيد، وفي جو الإحباط وتدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، كان طبيعياً أن تجد دعوة التيارات المتطرفة أذاناً صاغية في بعض الدول العربية حيث أصبح الجو مهيأ لها، ما جعل الخطاب الديني المتطرف هو المسموع على الساحة . كما أن بنية الدولة العربية الحديثة هي التي سمحت لكافة أنواع المعارضة المتطرفة بأن تحتوي الأوتوقراطية والثيوقراطية، وكانت بعض الدول العربية تبرر التعامل مع مختلف التيارات السائدة، ولم يكن بمقدورها التخلي عن طلب الشرعية الدينية، ومن هنا اكتسبت التيارات المتطرفة شرعيتها المزيفة من الثورة الثقافية الدينية لملء المسافة بين الدولة والمجتمع، وأصبحت أقنعتها الأيديولوجية وطنية أو قومية أو دينية ما أدى إلى تقرير الخاصية أنه ليس للقيمة وجود مستقل، لأن القيمة المطلقة تبقى وستبقى نهائياً بالنسبة إلى التجربة الإنسانية، فوق القيمة الأخلاقية، ومثلاً أعلى وشرطاً فوق الأرض تتكرس فيه كل القيم مباشرة للأخلاقية، وقد صارت قداسة مطلقة . إن العوز الابستمولوجي (المعرفي) يتمثل في انعدام القدرة على الاقتناع بأن سمة الفكر هي الانتشارية والعالمية .

فكل محاولة لتحليل ظاهرة الدين تحليلاً علمياً، هي محاولة مرفوضة أصلاً من طرف الأصولين في جميع الطوائف والأديان لأنها في نظرهم تقليد للحضارة الغربية، فهم لا يدركون حضور الغرب السياسي والفكري والتقني في الحاضر، فللغرب قيمه المتطورة، ومن الغرابة عدم التسليم اليوم بإيجابية المكتسبات الحضارية الغربية في العلم والتقنية والفلسفة . فالحضارة الغربية تمهد منذ زمن لاحتضان الإنسان الأرقى . ولكن نتيجة المواقف السياسية لبعض السياسيين الغربيين، وما تنتهجه بعض الدول من سياسات ساهمت في الفتنة والشر ونمّت شعوراً بالسخط والتوتر وأدت إلى هذا الواقع المعادي والعنف من بعض الفرق الدينية على العكس ما جاء به الإسلام عندما نادى بإخرج البشر من الظلمات إلى النور، فهو دين لا يقبل الانحطاط ولا يستعدي التقدم والعالمية بكل مفاهيمها، بل دعا إلى إقامة مجتمع إنساني عالمي، ولهذا فلا ينبغي أن يخشوا العالم المعاصر بل عليهم أن يشاركوا في التفاعل مع معطياته كالديمقراطية وحرية التعبير وحرية الاختيار وكل حقوق الإنسان المنسجمة مع العقل .

وكل هذه المبادئ لا يمكن أن تكون إلا إنسانية ومن نصيب كل البشر في العالم الذي أصبح شاشة الكترونية صغيرة، بحيث تصبح الحضارة الإنسانية الحديثة حضارة العالم من دون مركزية من خلال التفاعل الحر المشروط بالاستقلالية الوطنية والمشاركة الإنسانية، ويتم بناء الذات في إطار من الاتصال والتواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل وبين المكان الذي نعيش فيه والبشر في كل الأمكنة، مثلما عاشت الحضارة العربية الإسلامية أزهى عصورها وتقدمها حين تواصلت مع الحضارات الأخرى واستوعبت التراث الحضاري وأدخلته في دائرة التجديد والاستمرارية بالإرادة الإنسانية وإعمال العقل وحرية التفكير، وقدمت للإنسانية جلائل الأعمال، وما كانوا ليقدموا تلك الإسهامات لولا فهمهم للآخر ولمعطياته اللغوية والدينية والأخلاقية والقانونية .

وهذا يتطلب من العالم العربي والإسلامي الوقوف مع التاريخ وقفة الدارس لمعرفة المعاني الرئيسية في الأخلاق وسبر أغوار المنظومات الفكرية وجذورها العقدية والفلسفية التي تحرك العقل وتدفعه باتجاه التطوير والتغيير في كافة المجالات السياسية والثقافية والعلمية حتى تعيد الأمة العربية أمجادها والصعود بها إلى مستوى الأمم المتقدمة .