شايع بن هذال الوقيان

الديموقراطية، الكلمة الغربية التي نالت قبولا في الثقافة العربية رغم رفض هذه الثقافة للكلمات العصية على التعريب أو الترجمة. وهي اليوم أشبه بالكلمة السحرية البيضاء التي لا تحيل إلى تيار أيديولوجي بعينه. الكل يغني لها ويهتف باسمها، ولكنها لا تزال ـ عربيا ـ مجرد كلمة سحرية تلوكها الألسن. وعربيا أيضا ما يكون محلا للنزاع ومكانا للتنازع فهو، في تقديري، خال من المضمون والقيمة. إنها كلمة فارغة يتم ملؤها بما يشاء كل أحد من معان ومضامين.
من المقرر تاريخيا أن أول ظهور للديموقراطية بوصفها نظاما في إدارة المجتمع السياسي كان في أثينا. وكانت نموذجا مباشرا بسيطا لم يسبقه، كما أعرف، نضال طويل ومرير وواع من أجل الحرية، ولعل هذا ما جعلها ضعيفة واهنة، ولعل هذا ـ أيضا ـ ما جعل كثيرا من الفلاسفة يرفضونها بصفتها التاريخية تلك. أما الديموقراطية الناضجة والقوية فهي ديموقراطية العصور الحديثة، وبعبارة أوضح النظم السياسية والاجتماعية في أوروبا، فهي ذات تاريخ عريق في الكفاح والنضال الطويل. وإذا أخذنا أشهر نموذج لها، وهو النموذج البريطاني، لوجدنا أن أولى الخطوات التي نعرفها نحو الديموقراطية تمت في القرن الثالث عشر الميلادي، أي قبل سبعة قرون، وطوال مراحل تطورها ونموها لم يتردد اسمها (الديموقراطية ـ ككلمة)، وإنما أطلقت الكلمة لتصف هذا التاريخ الطويل. هل أكون مبالغا إذا قلت إن المطالب الأولى في أوروبا لم تكن على اطلاع تام بالثقافة اليونانية ومصطلحاتها السياسية والفلسفية؟ وإن إطلاق الكلمة كان لاحقا بعد توفر المؤرخين على الإرث الكلاسيكي اليوناني والروماني؟ إن الديموقراطية في أوروبا بدأت بدون تدبير وتخطيط، وإنما هي ثورة الواقع وخلاصة لتاريخ الظلم والاضطهاد. لم تبدأ الديموقراطية بالكلمة، بل بالفعل، بخلاف ما هو عليه الوضع في الثقافة العربية؛ إذ تلقى العربي الكلمة باعتبارها تعويذة سحرية مكتملة. قرر المفكرون والنهضويون أن الحل يكمن في تطبيق laquo;الديموقراطيةraquo;، وكان قرارا لا بجدوى. فلا يقرر مسار التاريخ إلا التاريخ نفسه ومن يعانيه معاناة حقيقية. والذي يعانيه هم الناس، والناس كانوا في حل من التفكير، وكان على المصلحين أن ينظروا عنهم ولكن انطلاقا من واقعهم التاريخي ذاته، أي البدء في ملاحظة ورصد الواقع واستثمار الثقافة المحلية من أجل استنهاض الناس للإصلاح والتفكير في شؤونهم المصيرية. وبعد حينٍ من التاريخ لن يكون هناك خلاف حول اسم هذه التجربة، أكان laquo;ديموقراطيةraquo; أو أية كلمة أخرى. المهم ألا يبدأ الناس بالكلمة، ففي البدء كان الفعل، وفي الختام يكون الاسم مجرد شاهد على واقع تاريخي حي ونام ومتطور.

التنظير ضروري، إنه ليس laquo;كلاماraquo; بل هو فعل وممارسة يقوم بها العقل كما تقوم اليد بالعمل اليدوي والآلة بالعمل الآلي. والتنظير شأنه شأن أي عمل تاريخي مهم لا يكون ذا بداية واضحة ومقررة سلفا ومدبرة، بل هو ممارسة جماعية ينهض بها المفكرون والفلاسفة والأدباء بشتى أطيافهم. ولا يتضح مجراها إلا بعد نضوجها وتجذرها في أرض الواقع وتضافرها مع الممارسات الأخرى. إن تحقيق laquo;الديموقراطيةraquo; في الواقع العربي لن يكون على غرار الديموقراطية الأوروبية ولن يكون لها اسمها، بل ستكون شيئا مختلفا تماما، كما اختلف الأدب العربي عن الأدب الأوروبي، والموسيقى العربية عن الموسيقى الغربية. ولن تتحقق laquo;الديموقراطيةraquo; بنسخها من هناك ووضعها هنا ـ رغم قرب المسافات اليوم ـ بل يجب أن تبدأ من هنا أولا. وليس معنى كلامي أننا يجب أن نقطع مع التجربة الأوروبية، فهي تجربة عظيمة وجديرة بالاعتبار، وإنما أقصد أن البدء يجب أن يكون من خلال استثمار الواقع نفسه. انظروا لما يحدث في تونس اليوم وما حدث في بعض البلدان العربية منذ عقود، لقد حدث مثله في فرنسا قبل أكثر من قرنين من الزمان، ولكنه هناك صادف مفكرين خلت أذهانهم من أية خطة مسبقة وأي مصطلح ممتلئ بمعان غريبة. أولئك المفكرون كانوا منظرين وفلاسفة كبارا، لم يبادروا إلى إرغام الناس على تطبيق ديموقراطية أثينا، فلربما كانت غائبة عن أذهانهم وقتئذ. ما سوف يجهض تجربة الواقع الحي هو حرب المصطلحات الجاهزة التي تختزل هذه التجربة وتفرغها من محتواها. ما يحدث في تونس اليوم هو توتر واقعي وخلاصة تاريخية ولو كان الأمر بيدي لمنعت تداول مصطلحات laquo;ديموقراطيةraquo; و laquo;اقتراعraquo; و laquo;حقوق إنسانraquo; و... إلخ، ولأمرت المثقفين بالنزول إلى الناس في الشارع (أو الصعود إليهم) والإنصات إليهم؛ ليس إلى ما يقولونه من شعارات غاضبة وهتافات صاخبة، بل إلى السبب الجوهري الذي جعلهم يفعلون ما فعلوه والتأسيس عليه. وبعدها فليأخذ التنظير مجراه، بعد أن يتم الحفاظ على الوهج الأول في سطوعه وحدته. إن الجوع يدفع الناس للعمل وليس مجرد الكلام، ويا طالما شنفت آذانهم كلمات رنانة ولكنها لم تحرك ساكنا.
هكذا يمكن الاستفادة من laquo;التجربة الأوروبيةraquo; التي سماها المؤرخون laquo;الديموقراطيةraquo;؛ التاريخ يصنع نفسه بنفسه إذا وعى. وهو يعي من خلال laquo;التنظير انطلاقا من الواقعraquo;، وما يمتاز به هذا التنظير أنه لا يتأسس على مقدمات ومقولات مسبقة، بل ينشئها إنشاء ويمنحها أسماءها بعد حدوث التجربة. فنحن نتحدث عن laquo;تجربةraquo; اجتماعية وليس عن إبداع فردي أدبي أو فكري أو فلسفي له من أمره سعة. فإذا كنا نتحصل على بعض المعارف من مصادر أخرى غير التجربة، فإن العلم الاجتماعي والسياسي هو علم التجربة الحق.