خالد قماش


السنة الميلادية الماضية كانت سنة حافلة بالتجاذبات الفكرية بين أطراف المدرسة متشددين ووسطيين، ونهايتها حافلة بالصراعات الثقافية بين أطراف التيار التنويري في البلد إن جازت لنا التسمية.
ففي الوقت الذي كان فيه رموز صحوية تتبادل التهم وتشخصن القضايا الفكرية، وتكيل التهم المجانية لأسماء أخرى من ذات التيار، بسبب آراء صادمة للفكر النمطي الذي ترسب في الذهنية السائدة مما جعل الوعي الفكري ينمو بشكل أفقي. في هذا الوقت كان رموز التيار التنويري أو ما يسمون باللبراليين يرقبون المشهد بعين شامتة ونشوة فادحة، وكأنهم يتشفون في من أطبق على الواقع الاجتماعي، وسيطر على الرأي العام ووجهه وفق أجندته الخاصة عقودا من الزمن.
كان اللبراليون يرون أن البيت الصحوي بدأ يتصدع من الداخل، وأن احتكار المتشددين بدأ يتحلحل ويتفسخ، وبدأت تظهر أصوات أوفر تسامحا وأكثر مرونة في التعامل مع مستحدثات الحياة ومستجدات الواقع الذي يحتاج إلى صياغة متوازنة ومتناغمة وتوجهات الجيل المتشرب كل ثقافات العالم بسبب السفر والاختلاط والاطلاع والتواصل عبر أقنية الإعلام المختلفة والمتطورة.
لقد نفضت تلك الأصوات المعتدلة الغبار عن مباحث علمية وأطروحات جدلية غيبتها طائفة أخرى تعتقد أنها تمتلك الحقيقة المطلقة، أقنعت الناس بالزهد في الحياة ماديا ومعنويا وجلدتهم ليل نهار ترهيبا وترغيبا في خطب قبورية، وبيانات ظلامية موحشة، فيما تتكاثر أرصدتها وتنشأ قصورها وفللها على أنقاض عقول متكلسة وأجساد تخثر الدم في عروقها !
في الضفة الأخرى.. وفي نهاية العام ظهر الشقاق والنفاق بين رفقاء درب الحداثة، وأطل الدكتور الغذامي بمحاضرته الشهيرة ليطلق النار في كل الاتجاهات، ويتبرأ من (تهمة) الحداثة ويعلن توبته من (ذنوب) اللبرالية كما يراها صاحب ( الخطيئة والتكفير )، وهي فيما يبدو مجرد تصفية حسابات شخصية قديمة !
والمقام هنا ليس متاحا لتشريح هذه الانتكاسات الأدبية حسب السياق الزمني على أقل تقدير، ولكني أتذكر مقولة أحد النقاد العرب الكبار في الدكتور الغذامي إبان ثورته على القديم، وتبنيه الفكر الحداثي بشكل منهجي وتأليفي في المملكة، إذ قال عنه ذلك الناقد بأن الغذامي حداثي بفكر سلفي !
بشكل عام التجاذب والتحاور والصراعات الثقافية بمجملها الفكري والأدبي تنبئ عن ظهور عصر جديد من التنوير والانفتاح، حتى وإن كان قد ابتدأ بما يشبه (صراع الديكة)، بيد أن الزمن كفيل بغربلة كل هذه المفاهيم الإنسانية المتناقضة ليذهب الجفاء ويبقى ما ينفع الناس ... ويكفي.