سعيد حارب

هل المواطنة ضد الدين؟ ولماذا يرفض بعض المتدينين فكرة المواطنة ويعتبرونها فكرة غربية وافدة؟!! وماذا يمكن أن يقول laquo;المشايخraquo; عن المواطنة؟ أسئلة كثيرة كانت تجول بخاطري وأنا أحضر مؤتمر laquo;الوطن والمواطنة في ميزان الشريعةraquo; الذي عُقد خلال الأسبوع الماضي ونظمته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت بالتعاون ورابطة علماء الشريعة بدول مجلس التعاون الخليجي، فالتصور السائد أن laquo;المشايخraquo; أو المتدينين بصفة عامة لا يهتمون بفكرة المواطنة، بل إن بعضهم يقف منها ومن مظاهرها موقف الرفض، ويستبدلونها بفكرة laquo;الإسلاميةraquo; التي تعبر عن الانتماء الأوسع الذي يحمله المسلم، ويبدو أن هذه الإشكالية ليست وليدة اليوم، فالعلاقة بين الدين والمواطنة علاقة laquo;شائكةraquo; ليس عند المسلمين وحدهم بل عند الأديان الأخرى كذلك، إذ يذكر laquo;كرونكرraquo; في كتابه تاريخ الكنيسة أنه بعد مجمع laquo;نيقيةraquo; عام 325م، والذي تم فيه إقرار عقيدة التثليث في الدين المسيحي أعلن الإمبراطور laquo;قسطنطينraquo; سحب صفة laquo;المواطنةraquo; عن من لا يؤمن بالتثليث، والطريف أن laquo;قسطنطينraquo; لم يكن يؤمن بالمسيحية يومها، بل كان وثنيا!!، وإذا كان ذلك قديما فإن إشكالية العلاقة بين الدين والمواطنة، تعد إحدى إشكاليات الدولة المدنية الحديثة -خاصة في البلاد العربية والإسلامية- التي لا تستطيع أن تلغي الدين وتأثيره من حياة الناس، وفي ذات الوقت تريد أن تقيم المجتمع على قيم مدنية معاصرة، وتبدو هذه المواجهة إذا تم طرح مفهوم المواطنة والدين بصفتهما مفهومين متعارضين، أو في أحسن تقدير مفهومين متقابلين، لكن الواقع يشير إلى أن هناك طرحا laquo;جديداraquo; لهذه العلاقة من خلال ما تم تقديمه من أوراق في هذه المؤتمر الذي تبدو أهميته من أنه دخل إلى ميدان لم يتم الولوج فيه من قبل، فقد شاركتُ في عدد من المؤتمرات والندوات التي كانت تناقش المواطنة في جوانبها القانونية أو السياسية أو الاجتماعية، ولم يكن هناك طرح لهذا المفهوم في إطاره الديني، وهو ما يحسب لهذا المؤتمر الذي ناقش فكرة المواطنة من جوانبها المختلفة، بل في أدق تفاصيلها ومعطياتها برؤية laquo;دينيةraquo; وبعيدا عن الخطاب laquo;العاطفيraquo; الذي كثيرا ما يلف الحديث حول الوطن وحب الوطن وأهمية المحافظة على مكتسبات الوطن وغير ذلك، لكن المؤتمر تطرق إلى موقف الدين من فكرة المواطنة وقد جاءت الأوراق المقدمة لتؤكد على أن الالتزام بالمواطنة في ظل الدولة المدنية الحديثة يعد أحد الواجبات التي يجب أن يلتزم بها المسلم المعاصر، وهو حديث لم يكن مطروحا سابقا لا عند بعض الباحثين في الشأن الإسلامي، ولا هو متصور عند خصومهم!!، كما تطرق الباحثون والمشاركون إلى فكرة المواطنة باعتبار أنها laquo;عقدraquo; قانوني وشرعي بين السلطة السياسية وأفراد المجتمع، متمثلا بالدستور الذي ترتضيه الأمة باختيارها، وينظم العلاقة بين الأفراد والسلطة السياسية أو الأفراد فيما بينهم، ويكون شاملا للحقوق والواجبات التي يجب أن يلتزم بها كل طرف، وقد استشهد أصحاب هذا الرأي بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، حين عقد laquo;وثيقة المدينةraquo; التي تعد الدستور الأول، والتي ضمت سكان المدينة من المسلمين واليهود، وكانت تنص على أن laquo;لهم ما لنا وعليهم ما عليناraquo; وهو إقرار laquo;مبكرraquo; بحق المواطنة لغير المسلمين، وهي مسألة مهمة في وقتنا المعاصر، حيث يذهب البعض إلى الحديث عن مواطنة المسلمين وحدهم، وأن الآخرين laquo;مواطنون من الدرجة الثانيةraquo; ويخلطون في ذلك بين الحقوق المدنية والحقوق الدينية، لكن الوثيقة أشارت إلى تلك الحقوق ففي الأولى يكون laquo;لهم ما لنا وعليهم ما عليناraquo; وفي الثانية laquo;لكم دينكم ولي دينraquo; أي حق كل طرف بالاحتفاظ بإيمانه ومعتقده دون أن يكون ذلك مانعا له من حقوقه المدنية!!، ولا شك أن فكرة المواطنة تتعلق بالحقوق المدنية وليس الحقوق الدينية، وبالرابطة المدنية التي تحدها الجغرافيا والسياسة والدساتير والأنظمة، وليس في ذلك ما يناقض الحقوق الدينية بل يعززها ويحفظها ويحترمها من خلال إقرار حق المعتقد والتعبير عنه وممارسته، وبذلك لا يتناقض مفهوم المواطنة مع الانتماءات الأخرى الديني منها والقومي والإنساني إذا وضع كل انتماء في إطاره الطبيعي، وهذا ما أكد عليه المؤتمرون من خلال أوراق العمل التي قدم والتي ناقشت كثيرا من الإشكالات التي يثيرها بعض المتدينين باعتبار أن المواطنة مفهوم غربي غريب على المسلمين، مما سبب مشكلات في بنية الفكر الإسلامي المعاصر وفي المجتمعات العربية والإسلامية، إذا تدور معارك حول قضايا خلافية ترتبط بالمواطنة مثل تحية العلم والوقوف أثناء النشيد الوطني أو التحية العسكرية، وكل ذلك باعتباره مناقضا للدين، وقد تم مناقشة مثل هذه الأطروحات، التي تم التأكيد فيها على أن ذلك مما تعارف عليه الناس وليس فيه ما يناقض الدين أو يخالفه لأن تلك الممارسات ليست عبادة، وإنما هي تقدير لمظاهر الدولة وشعاراتها ورموزها التي يجب أن تُحترم، وذلك أحد مستلزمات الانتماء والمواطنة، ولقد كان المؤتمر فرصة لمناقشة كثير من القضايا الشائكة حول المواطنة، مما يستدعي تعزيز طرح ومناقشة هذه الأفكار داخل بنية الفكر الإسلامي والتيارات الإسلامية المعاصرة، وتلك مهمة لا تتوقف على المشاركين في المؤتمر أو المنظمين له بل تمتد إلى المؤسسات والدول والباحثين والمفكرين حتى تستطيع المجتمعات العربية والإسلامية تجاوز كثير من المعضلات التي تتم من خلال الطرح الخاطئ لمفاهيم صحيحة.