راشد قايد

ليس المسيحيون العرب في خطر، خلافاً لكل ما يقال وينشر، بل هي المنطقة كلها في خطر، ومن يحاول حصر هذا الخطر بهم، يفعل ذلك لقصر نظر وضعف رؤية، او ضيق افق وعجز عن ايراد ما يحدث في سياق اوسع.
قد تشير الأصابع فوراً الى اسلاميين عنفيين. واذا كان الاتهام يليق بهؤلاء - من دون إهمال أن يكون عملا فرديا جنونيا - فانه يتجاهل آخرين من اصحاب المصلحة الاستراتيجية في اشعال أزمات في المنطقة ككل، توحد الضحايا واهلهم، وتحول الآخرين فاعلين أو متواطئين.
واذا أصابت اصابع الاتهام الحقيقة، فان حصرها بالمسيحيين كمستهدفين من دون اظهار استهدافها الأبعد، اي كل من لا يتفق مع الفاعلين، يسهل لهؤلاء استراتيجيتهم. فطالبان والأفغانيون العرب، ما ان انتهوا من السوفياتي quot;الملحدquot; حتى التفتوا الى الأميركي quot;المشركquot;، ومن بعده الى المسلم quot;الضالquot;. فهذه الجماعات، ومن ينحو نحوها، ترى في كل من لا يتفق معها عدوا يجب تصفيته لا إقناعه بما تؤمن. ولا ينفع في حالها حوار بين بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر، سواء اتفقا في الرأي أو اختلفا . فالعنف الديني، إن كان ما حدث في الاسكندرية إحدى صوره، لا يحل بالحوارات بين رجال الدين، ولا في استخراج لحظات الود الديني من بطون التاريخ، بل في تحسين نظم التعليم وتعزيز أهمية الفرد في المفاهيم العامة لا مسخه رقما في دائرة الجماعة، وتكريس احترام إنسانية الانسان بتكريس المساواة في فرص التقدم والعلم والعمل. فغياب هذه هو أحد وجوه التمييز الذي يجعل البعض ضعيفا أو قويا في السلّم الاجتماعي العام، سواء طبقيا أو دينيا أو عرقيا، فيحلّل quot;تصفيةquot; الأول بيد الثاني معنويا، وحتى جسديا إذا ما توافر القرار والظروف. فهناك دائما توتسي وهوتو، بتسميات مختلفة ولكن في ظروف متشابهة.
ما يحتاج اليه هذا النوع من العنف الجماعي هو المناخ المؤاتي، كالتمييز بين الناس في المجتمع الواحد، وتعزيز وهم القداسة والاستعلاء على الآخر، واستغلال الدين وتوظيفه سياسيا، وجعل نقاش الهوية الدينية بندا في كل حوار أو سياقا لكل خطاب. ولا يبعد عن ذلك خطب المسؤولين السياسيين الذين يتوجهون الى شعوبهم باعتبارهم مسلمين ومسيحيين، أو سنة وشيعة، أو أقباطا ومسلمين، أو عربا وأفارقة، فيلغون بذلك الرابطة الوطنية، أي المواطنية، ويكرسون الروابط العرقية أو الإتنية أو الدينية.
ذلك هو الاحتمال الأول في جريمة الاسكندرية، لكنه بالطبع ليس الوحيد. ومن دون الوقوع تحت وهم المؤامرة، لا مناص من التذكر أن إخراج مصر من العالم العربي إلى عالم كمب ديفيد أسقط جدارا عظيما كان يواجه الهيمنة الاسرائيلية، تماما كما أدى احتلال العراق الى سقوط جدار لا يقل عظمة أمام الطموحات الفارسية، لذا ليس من عجب أن تكون كنيسة القديسين في الاسكندرية، بعد كنيسة النجاة في بغداد، ضحية عنف دموي في زمن متقارب. فكثيرون يحتاجون الى عرس دم ديني في المنطقة يفتتها دولا تكون اسرائيل عميدتها، وتتيح، في الآن نفسه، تمددا مذهبيا لغيرها.
وفي زمن يفيض فيه العالم الثالث على أوروبا مهاجرين، برا وجوا وبحرا، بطرق مشروعة أو غير مشروعة، من المسلمين والهندوس والبوذيين والسيخ من دون تناسي الوثنيين الافريقيين، يأتي تهجير المسيحيين العرب هدية للقارة العجوز التي تكاد تفقد هويتها العرقية والدينية والعلمانية.
بين كنيسة سيدة النجاة في بغداد وكنيسة القديسين في الاسكندرية ما يختزل احدى ازمات المنطقة العربية. ليس المعني بذلك الانفجاريين والضحايا، بل العنف نفسه الذي يعيش فيه الاقليم ككل حيث مجتمعات لا تتباهى سوى بالقوة، فتنفق، كدول، ثروات على شراء سلاح لا تستعمله، واذا استعملته في مواجهة داخلية ينفضح جهلها بحسن استخدامه فتستعين ببائعه، لتنتصر على متمردين أو منشقين أو انقلابيين. اما الجماعات والأفراد فيستقوون بالسلاح الفردي، وإذا لم يتوافر فبسطوة أهل السلطة ممن يتكئون على نفوذه. وكل ذلك من نتاج غياب الديموقراطية.
نتّهم المستعمر السابق لدولنا بأنه طبق منطق فرق تسد ليسيطر. من قال أن الأنظمة الوارثة ليست بعيدة عنه، وقد أمنت إقامتها على ظهورنا بالإخلاص لتطبيقه، لنقف اليوم أمام لحظة سداد ثمن إلغاء الديموقراطية واسقاط الهوية المواطنية لمصلحة الهويات الأضيق أفقا.