محمد المهنا أبا الخيل

أثار الدكتور عبدالله الغذامي جدلاً لا يزال محتدماً، بعد أن وصف الليبراليين السعوديين بأنهم موشومون في محاضرته laquo;الليبرالية الموشومةraquo;، وفي لقائه مع الدكتور عبدالعزيز قاسم في برنامج (البيان التالي) كرَّس تلك المقولة وشدد على أن الليبراليين السعوديين يفتقدون للخطاب الواضح والنضالية لمفهومهم، هذا الجدل الذي استأثر بكثير مما يطرح في الساحة الثقافية السعودية هذه الأيام، فولَّد ما يشبه مظاهرة احتجاج فكري، وأخرى محتفية بكلام الغذامي، ومتكية عليه في حراب واضح لمفهوم الليبرالية، وحيث إن هذا الجدل لم يعد محصوراً في أروقة النوادي الثقافية ومجالسها، بل إنه استولى على اهتمام الإعلام العام، وبات حديث الصحف والشارع، وبات كثير من الناس يسأل، ما هي الليبرالية؟ ومن هم أصحابها؟ وهل القول بها من باب المذموم شرعاً؟.

سبق أن كتبت في مقال سابق أن الليبرالية بدأت كمفهوم فلسفي يتناول حرية الخيار الإنساني، وحيث إن محور الليبرالية هو الحرية، والحرية هي حال وليست نشاطاً، وقد ناضل المفكرون الغربيون في سبيل اكتساب اعتراف عام بأن الحرية حق لازم لأصل كينونة الإنسان؛ فالإنسانية تمتهن قمع الحرية أو الانتقاص منها، بل إن بعض المفكرين زاد على أن جعل الحرية حق لازم لأي كائن يملك الإرادة، وكثير من هؤلاء هم رواد حركات حماية حقوق الحيوان، والسائد بين المفكرين المنادين بالحرية هو الاعتقاد بالحرية بمفهومها المطلق، والذي يقوم على إطلاق خيار الإرادة من أي قيد طارئ (أي غير لازم لقصور ذاتي)، فيكون الإنسان في خيار فعل الشيء أو عدم فعله، أو قول الشيء أو عدم قوله بناء على إرادة فكرية مؤسسة على قيم سامية وليست مؤسسة على مصالح ومخاوف أو غرائز مؤججة، لذا يحتج المفكرون الليبراليون بأن القول إن الحرية المطلقة هي إفلات للحيوانية وهدم للقيم الإنسانية المشتركة، هو قول غير مؤسس على فهم لعقيدتهم، وهم يدافعون عن ذلك بالقول إن الحرية أصل تكوين المفاهيم المشتركة، والتي تؤسس لانتشار القيم السامية؛ فالإنسان بتكوينه العقلي يدرك أربع قيم أساسية تمثل نشاطات إنسانية هي: التآلف والتضامن والتعاون وحفظ الحقوق، هذه القيم لا تكتسب فاعليتها إلا بسيادة حرية الخيار الفردي، ومن تفاعل تلك القيم الأساسية مع الواقع البيئي بما يشكله من مخاطر ومنافع تتكون القيم الفرعية وقانون العيش العام، أو ما يسمى (العقد الاجتماعي) الذي قد يشمل التشريعات العقائدية والدينية، لذا يقول معظم المفكرين الليبراليين إن الحرية المطلقة هي المؤسس لبيئة نشوء كثير من المعتقدات الدينية والتكوينات السياسية والاجتماعية، وإن العمل على كبحها أو قيدها، هو انقلاب فكري مؤسس على رغبات ومصالح لا على قيم سامية، وهو صورة من صور تكريس المفاهيم الناقصة، التي لا تصمد أمام المعالجة العقلية المستنيرة، وهؤلاء المفكرون الليبراليون لا يناطحون العقد الاجتماعي بمقولة، إنه مغلوط يجب تغييره، أو إن الحرية هي سلاح لنقض ذلك العقد، إنهم يقولون إن الحرية هي البيئة الحافظة لاستدامة تأسيس وتطوير العقد الاجتماعي، بحيث يكتسب آلية التحديث، فيعظم فعالية القيم الإنسانية الأساسية الأربع، وبالتالي يحقق السعادة للمجتمع بصورة عامة عندما يحقق حرية إرادة أفراده يؤخذ على الطرح الفكري الليبرالي، الإفراط في المثالية للدفاع عن الحق بالحرية المطلقة، فمُنظِّروه يقللون من عامل الأنانية الفردية التي يحكمها التوازن بين الطمع والخوف وليس القيم السامية، فهم يفترضون أن الإنسان بطبعه مدرك عاقل تحكمه القيم الأساسية الأربع وإن كان هناك أنانيون فهم قلة تحكمهم حالة طارئة تفترض حماية الذات، في حين يجادل المخالفون أن ذلك خلاف للتراث الإنساني التاريخي والذي أثبت أن الصراع حكم حياة البشر منذ الأزل وأن المحرك لذلك هو الأنانية الفردية، ومع ذلك فإن مقولة الليبراليين باتت مقبولة لدى أوساط كثيرة قد لا تتبنى طروحاتهم بجملتها، ولكنها تتعامل معها باحترام بغية الوصول لمفهوم مطمئن للتعامل مع الحرية، معظم هذه الأوساط هي أوساط دينية أو مذهبية سياسية، وأحد أسباب الفصام مع المفهوم الليبرالي حول الحرية وتلك الأوساط هو المكون المقدس في المعتقدات والتعاليم الدينية، وكونه لا يقبل الحلول الوسطى مع مفهوم الليبراليين حول جزئية أن الدين من مكونات العقد الاجتماعي وهو عرضة للتطوير والتحوير لتحقيق فاعلية القيم الأساسية. كما أن الليبراليين لا يقبلون اجتزاء الدين من حركة التطوير، خصوصاً عندما يكون الدين متشعب التداخل مع النشاطات الإنسانية المحققة للسعادة.

لذا فالواضح أن المفهوم الليبرالي بصورته الأصلية، يتصادم مع كثير من المسلمات الإسلامية؛ فالإسلام كمعتقد هو علاقة ربانية إنسانية مؤسس عليها العقد الاجتماعي وهو بهذا على خلاف منهجي مع الفكر التأسيسي لليبرالية، حيث يرى الإسلام أن الحرية هي خارج إطار العلاقة الإنسانية الربانية وهي مرهونة بمقتضيات تلك العلاقة، فالإسلام لا يقر بحرية المعتقد بغير الإسلام في ظل سيادة الإسلام، ولكنه يقبل في التعايش مع غير المسلمين اتقاء لصولتهم وشرهم. هذا الخلاف المنهجي بين الإسلامي والليبرالي، هو ما يجعل الاعتقاد بالليبرالية المطلقة أمر محرج لكثير من المفكرين المسلمين، فهم إما أن يخرجوا من الاعتقاد الأساسي بدينهم، أو الاعتقاد الأساسي بالليبرالية. وهو ما يجعل كثيراً من الليبراليين السعوديين يحاولون إيجاد منطلق توفيقي بين المنهجين بصورة موشومة كما قال الغذامي.

كثير من الذين ينشطون في طرح فكر تنويري تقدمي في الساحة الثقافية السعودية هم من الملتزمين بالمعتقد والممارسة الإسلامية، ومجال نضالهم الفكري هو ضمن المختلف عليه والمتشابه في المكون الديني في العقد الاجتماعي، لذا فنضالهم لا يزال تحت المظلة الإسلامية، وعندما يطالبون بإعادة النظر في شبهة أو حكم أو فتوى سابقة فهم يجادلون، أن ذلك النضال لا يطال الثوابت الإسلامية، ولكنه يحاجج حكم وأقوال الرجال من الفقهاء، ويطالبهم بالنظر فيما يساق من حجج وذلك انطلاقاً من القناعة أن الحق في الإفتاء هو معقود لهؤلاء الفقهاء والعلماء، والجدال معهم لا ينطوي على استخفاف أو إقلال، نعم هناك احتدام في الجدل وهو عملية لازمة لخلق قوة دفع فكرية تقود هؤلاء الفقهاء لتبني منهج نقدي لمجمل التراث التي تأسس على الكتاب والسنة والذي ألفه رجال قالوا ما قالوا بناء على معطيات فكرية زمنية ومكانية سائدة، لذا فهؤلاء المفكرون السعوديون التنويريون لا ينطبق عليهم التعبير الليبرالي بمفهومه المطلق، فعليهم أن يبحثوا عن صفة لهم تعبيرية وصادقة تجعل من خطابهم خطاباً مشروعاً ومقبولاً اجتماعياً وشرعياً.