رضوان السيد


ما حصل ويحصل بالعراق ومصر وفلسطين والسودان واليمن، ويبعث على الهم، ويكاد يستعصي على التفكير. أما ما لا ينبغي الخوض فيه فهو القول: لقد حذرنا من هذا الأمر أو ذاك قبل سنوات، لكن أحدا لم يصغ إلينا. أو القول: إن المسؤولية تقع على الأنظمة أو على الإسلاميين المتشددين أو على الإسرائيليين والأميركيين، ونحن أو الجماهير من ذلك براء! والواقع أن أحدا منا ما حذر من هذه الظاهرة أو تلك استنادا إلى تشخيص دقيق وذي نتائج. كما أنه ليس صحيحا أننا نحن المثقفين خلو من المسؤولية. ففي حالتنا الحاضرة نحن العرب تتوزع المسؤولية - قبل الأجانب وقواهم ومؤامراتهم واستخباراتهم - على فئتين: الذين يتولون الشأن السياسي والأمني، والذين يتولون الشأنين الثقافي والديني أو يتصدون لذلك. فكبار رجال الدين والعلم الديني مسؤولون جزئيا عن سواد ظواهر التشدد والتطرف والعنف، لأنهم ما تصدوا لها في العقود الأخيرة بالتصميم والحزم الضروريين. وإذا كانوا يرون أنهم غير مؤثرين بالقدر الكافي، لأن الشبان لا يصغون إليهم، أو لأن السلطات لا تتبع نصائحهم فقد كان عليهم أن يخبرونا بذلك عبر وسائل الإعلام أو يعتزلوا مناصبهم لإحساسهم بعدم الجدوى، أو بعدم القدرة على القيام بواجباتهم. ولست أعرف رجل دين كبيرا اعتزل منصبه أو عالن المسؤولين والناس برأيه - مع أنني سمعت كثيرا من الشكوى من جانبهم، إما لأن المسؤولين السياسيين لا يصغون إلى تشخيصهم المختلف للمشكلة، أو لأن هؤلاء المتطرفين من غلاظ الرقبة، لا يسمعون لغير رؤسائهم الحزبيين.
أما مسؤوليات المثقفين وكبار رجال الإعلام والصحافة، فتتوزع على شكلين: أولئك الذين امتلكوا نهجا سياسيا وثقافيا حزبيا أو شبه حزبي من الشيوعيين واليساريين والليبراليين، وأولئك الذين وقفوا في الوسط بين الإسلاميين ورجالات الأنظمة. وكلا النوعين من المثقفين والإعلاميين الراديكاليين والوسطيين تخلى منذ البداية عن مهامه، أو ما اعتبر أن له رسالة أو مهام. فالمثقف هو الذي يعتنق أو يطور رؤية، ثم يحاول نشرها بين الجمهور، ويكون مستعدا للنضال من أجلها حتى لو أدى ذلك إلى الضرر على شخصه أو حريته. أما اليساريون فقد تحالفوا منذ مطلع الستينات من القرن الماضي مع حكومات الضباط، وآمنوا بقدرتها على تحقيق الثورة والتحرر والتحرير. وعندما تخلوا عنها أو تخلت عنهم في الثمانينات من القرن الماضي، أيضا، انصرفوا إلى إدانة الموروث الإسلامي الذي سد على العرب والمسلمين طريق التقدم، وأقبلوا في الوقت نفسه على التمدح بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وقد أرادوا إقناع الإسلاميين بهما وليس الحكام خوفا من قطع الأرزاق أو قطع الأعناق! أما الوسطيون أو المعتدلون أو المستقلون، فما قطعوا مع أي طرف خشية الاتهام بالراديكالية أو ضعف التأثير، ورجوا أو ترجوا laquo;ترشيد الصحوةraquo; من جهة لحفظ الاستقرار والسلم الأهلي، كما رجوا أو ترجوا أن يشفق الحكام على الناس، وألا يلجأوا دائما للحلول الأمنية الاستعراضية.
وهكذا وفي البداية والنهاية تخلى رجال الدين والمثقفون على اختلاف فئاتهم عن مسؤولياتهم دونما بذل جهود كبيرة لا في هذا الاتجاه ولا في ذاك. وقد ذكرت خمس مشكلات كبرى تعاني منها أمتنا اليوم في بلدان محددة. لكن مسؤولية رجال الدين والمثقفين تتجاوز هذه البلدان إلى مواطن أخرى في العالم العربي، لا يزال استقرارها، ولا تزال حرياتها مهددة، لتخلي أهل الدين وأهل الثقافة عن واجباتهم التي تتمثل كما سبق القول في التوصل لرؤية وبلورتها والعمل على تحقيقها في الحاضر والمستقبل؛ ومع السياسيين أو في مواجهتهم.
ولنعد إلى المشكلات الخمس المتفجرة الآن، وإن لم تكن الوحيدة. ففي فلسطين، حل الإسلاميون الحماسيون مشكلتهم، أو اعتقدوا ذلك حين انفصلوا واعتزلوا أو انعزلوا بغزة. وهم اليوم يشكون من السلطة الفلسطينية أكثر مما يشكون من إسرائيل. أما السلطة الفلسطينية ومعها أكثر العرب، فقد راهنت على حل الدولتين منذ أواخر أيام بوش، وانخرطت في المقاربات التفاوضية للرئيس أوباما. وبعد نحو العامين ها هم يقفون أمام الحائط المسدود، ويذهبون مترددين إلى مجلس الأمن؛ في حين يتخلى الأوباميون عن أجزاء أساسية في سياستهم السابقة، ثم لا يقبلون أن يذهب الفلسطينيون إلى مجلس الأمن!
وللدولة العراقية الجديدة مشكلات كثيرة وكبيرة. لكنها تعلم منذ عام 2004 على الأقل أن الأقليات الدينية والعرقية مستهدفة من المتشددين، ومن الذين لا يريدون للعراق أن يستقر وأن يبقى موحدا: فما هو الإجراء laquo;الجذريraquo; الذي اتخذته سلطة المالكي في السنوات الأربع الأخيرة، للتصدي للحملة على المسيحيين؟ ثم أليس من الطبيعي أن تصل تلك السلطة إلى laquo;خلاصاتraquo; بشأن المهددين الحقيقيين للمواطنين المسيحيين، لجهة الأسباب، ولجهة إجراءات الحماية؟ أولم يثر اهتمامها بل شكوكها أن المذبحة بكنيسة الكرادة قبل شهر ونيف، ما وجد المخططون لها ذريعة غير laquo;الظلمraquo; الذي وقع بقبطيتين مصريتين قال تنظيم laquo;القاعدةraquo; أنهما أرادتا الإسلام فمنعتا؟!
وإذا كانت السلطات السياسية والأمنية بمصر لم تتنبه إلى البدء باستهداف الكنائس والمصلين من الهجوم على كنيسة المحلة الكبرى في عيد الفصح الماضي، أفلم ينبهها ما جرى قبل شهر ونيف بكنيسة الكرادة ببغداد، حيث ذكرت مصر وذكر أقباطها؟
إن الذي أزعمه - ومن دون انتظار لكشوف من laquo;ويكيليكسraquo; - أن الذين ذبحوا وقتلوا وفجروا بالعراق ومصر، لا يدارون من جبال وزيرستان؛ بل يدارون من أجهزة استخبارات لدى العدو القريب! لكن هذا الاستنتاج إن صح، لا يعفي بالطبع السلطات في البلدين من المسؤولية، بل يزيد الأمر سوءا. إذ معنى ذلك أن الاهتمام إنما يتركز على ما يعتقد أن فيه خطرا حقيقيا على استمرار النظام. ومعنى ذلك أيضا أن البلدين مشرعان ليس على تهديد الإرهابيين وحسب؛ بل وعلى تهديد الاستخبارات من كل حدب وصوب!
ولا حاجة لقول الكثير عن السودان رغم المأساة الهائلة والجارية منذ عام 1989. وإنما العتب على المعارضة أو المعارضات التي سمحت لهذا النظام بتفكيك البلاد جزءا جزءا وعلى مدى عقدين من الزمان. لقد بتنا نخشى أن لا يبقى بلد اسمه السودان إن منح النظام القائم في الخرطوم فرصة البقاء عاما أو عامين من بعد!
ومما يدل على مسؤوليتنا نحن المثقفين عن سوء الأوضاع في العالم العربي، أننا ظللنا نكتب غافرين ومستغفرين للرئيس اليمني بحجة أنه حقق الاستقرار، وصنع الوحدة مع الجنوب. لكن الوحدة تناثرت منذ أكثر من عقد، وليس في الجنوب فقط، بل وفي أقاصي الشمال أيضا، ولا استقرار اليوم حتى في جزيرة سوقطرة، وها هو الرئيس اليمني يتناسى كل ما حصل، وها هو الرئيس اليمني يفكر في تعديل دستوري يهبه الرئاسة مدى الحياة، ولم تتردد الأكثرية النيابية في التصويت على التعديل؟!
هل بقي في العالم العربي وقت للتفكير، ووقت للتدبير؟ لقد حبكت معي هذه laquo;النكتةraquo; عندما قرأتها في مقالة بإحدى الصحف، أخذ فيها الكاتب على السلطات العربية أنها لا تأخذ وقتها في التفكير، لكي يأتي التدبير صحيحا. لا، ليس هناك تفكير ولا تقدير ولا تدبير؛ ليس لأن السلطات لا تملك الوقت، بل لأنها لا ترى حاجة لذلك. وإلا فوقتها لا حدود له. إذ مضى على هذه الأنظمة من دون تغيير جوهري أكثر من أربعة عقود، ورأس النظام أو ابنه باق حتى لو زالت الشعوب والبلدان. وخفف المولى، عز وجل، عن كيم إيل سونغ في دركه إذ هو لم يرث في جمهوريته غير جيلين حتى الآن!