سيد أحمد الخضر

ومستريح أيضا.. بعد أيام سيطلق العالم العربي جنوب السودان طلاقا لا رجعة فيه.. سيودع السودان عقودا من الحرب والأحقاد عندما تنطق صناديق الاقتراع البراءة من كل ما يمت بصلة للعرب والمسلمين.. وفي هذه اللحظة التاريخية سيوقن ساسة الخرطوم بأنهم أهدروا كثيرا من الوقت والمال في إقليم لا سبيل إلى أسلمته وتعريبه.. وهنا لن يعيد الندم على ما فات ثروات السودان التي أهدرت طوال نصف قرن من الزمن ولا الأرواح التي أزهقت في سبيل السيطرة على مجتمع باسم العربية والإسلام رغم أن أهله يعبدون الأوثان ولا يربطهم بالعرب نسب ولا صهر.
ستقتل نتيجة الاستفتاء في الجنوب كبرياء العروبيين والإسلاميين ليس في السودان فحسب إنما في الوطن العربي الذي يشكو ساسته ومثقفوه من إقصاء الغرب وهيمنته على الأمة العربية، وفي الوقت ذاته يمارسون ما هو أدهى من ذلك وأمر بحق الأقليات الدينية والعرقية التي حكمت عليها لعنة التاريخ والجغرافيا بأن تعيش وسط العالم العربي.. وسط العالم الذي يجهل الحرية والتعددية ويتجاهل قيمة التنوع ويضرب بيد من حديد على كل من يعتنق رأيا أو مذهبا يخالف ما سمي زورا بثوابت الأمة.
لكن بقدر ما سيكون انشطار السودان توبيخا لتاريخ من اللهث وراء وحدة لا وجود لمبرراتها، سيكون خيرا لشعبي الجنوب والشمال. عندما تسقط مسوغات توقف عجلة التنمية بداعي الحرب والتعقيدات السياسية، سيحتم على الشمال التفرغ لاستغلال ثرواته الزراعية والحيوانية الهائلة والاستثمار في الكادر البشري واستقطاب الكفاءات السودانية التي هاجرت إلى الغرب والخليج العربي عندما ضاق بها الوطن، ولا شك أن الجنوب هو الآخر سيجد متسعا من الوقت للاستفادة من ثرواته النفطية ورسم معالم سياسته الخارجية بالتكامل مع إفريقيا أو التوجه إلى إسرائيل التي تملك الكثير من الأصدقاء العرب في السر وفي العلن.
ولعله من واجب دول المنطقة أن تستوعب الدرس السوداني الكبير، فليس مجرد استفتاء يختار فيه شعب الانفصال عن الدولة الأم كما يحدث في كثير من أرجاء المعمورة. إنه ليس كذلك إطلاقا، بل يعني انفصال الجنوب فشل المنطقة في laquo;عوربةraquo; الأقليات وضم الأقاليم التي يتوق أهلها للتحرر من قبضة أنظمة تصادر تاريخ الناس وتقتل حاضرهم.
إن سياسة الدول العربية في مصادرة أحقية الشعوب في تقرير مصيرها جلبت نتائج كارثية على عموم الشعوب العربية من جهة، وأساءت لأبناء الأقليات من جهة أخرى، حيث عطل القادة مسيرة التنمية وأوصدوا الباب أمام الديمقراطية بحجة الحفاظ على المكتسبات الوطنية والوحدة الترابية، كما أدت تلك السياسة إلى عدم توزيع الثروة والتباين في اهتمامات المواطنين، ما أسهم في وجود خلل بنيوي في المجتمعات، وشرع للأقليات البحث عن نصير في العالم الغربي لانتزاع حقوق تكفلها مبادئ العدالة قبل أن تحتل حيزا كبيرا في المواثيق والأعراف الدولية.
من هنا على الجامعة العربية أن تقنع الدول الأعضاء بأنه لا إكراه في العروبة وأن الأمة لم تهزم في كافة الصراعات والمحافل الدولية عن قلة، بقدر ما كان التخلف والاستبداد وراء جميع تلك الانتكاسات. لقد حان الوقت للاعتراف بهويات الأقليات التي تعيش بيننا ومنحها المواطنة الكاملة من غير شرط ولا قيد، هذا أولا، وثانيا يجب على العالم العربي تمكين الأقاليم الراغبة في الاستقلال من تقرير مصيرها قبل استنزاف ثروات وأرواح أخرى فيما لا طائل من ورائه، فالوحدة لا تكون بحد السيف. ولعل الأكثر إلحاحا في هذا الصدد هو تمكين الأكراد من تأسيس وطن لا ترفع فيه الرايات العراقية والسورية، ثم السماح للصحراويين الغربيين بالانفصال عن المغرب الذي يبغضون البقاء في كنفه. لكن قيام دول جديدة يجب ألا يكون عامل قلق للساسة، فمصير هذه الدول جميعا هو التكامل بعد دفن الأحقاد وتغليب مصالح الشعوب، وقد بات من المسلم به في التاريخ السياسي أن طريق الوحدة يمر بالانفصال، ولعل التجربة الأوروبية خير مثال على ما نقول.