عادل مالك

يبدأ الشهر الأول من بداية العقد الثاني من الألفية الثانية باشتداد عصف الرياح التقسيمية، وحول التجزئة والفكر الوحدوي. وأخطر ما في الأمر الجنوح نحو التقسيم وتكريس الحركات الانفصالية القائمة على أسس مذهبية إضافة إلى عوامل أخرى كثيرة ومتعددة. وأحدث النماذج على ذلك بروز ما يمكن أن نطلق عليه laquo;السودنةraquo; (من السودان) والتي تضاف بدورها إلى laquo;اللبننةraquo; وlaquo;العرقنةraquo; وlaquo;الصوملةraquo; وlaquo;القبرصةraquo; وlaquo;البلقنةraquo; واللائحة تطول.

والشواهد ماثلة للجميع. إذ بعد ساعات على قراءَة هذا المقال يكون أهل جنوب السودان في طريقهم إلى الاقتراع، ونتائجه المحسومة سلفاً والقاضية بفصل جنوب السودان عن شماله. وها هو مركب الانفصال يرسو على جزء من نهر النيل وعلى ثروات طبيعية أخرى. ولأننا لا يمكن ولا يجب علينا قراءَة الكتاب ndash; أي كتاب - من الصفحة الأخيرة، لا بد من العودة إلى بعض الخلفيات والتداعيات التي سبقت هذا التاريخ. كان المخطط: أن تندلع رياح تقسيم المنطقة مع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان (13 نيسان/أبريل 1975). وبعد أن شهد لبنان أسوأ فصول الدمار في الحجر والبشر أمكن حصر انتقال الفيروس التقسيمي، فكان اتفاق الطائف والذي اتضح في ما بعد أنه كان أقرب إلى اتفاق لوقف إطلاق النار أكثر منه إلى الحل الجذري لإعادة ترميم الصيغة اللبنانية والتي طعنت في الصميم فضلاً عن أن الكثير من بنود هذا الاتفاق لم ينفّذ بعد حتى اللحظة فجاءَ الاتفاق مبتوراً.

وتتضح نتائج أخطاء هذا الاتفاق بعد انقضاء ما يزيد على واحد وعشرين عاماً، بالكثير من الممارسات غير المتوازنة في غالبية الأحيان. وكلما أثير مطلب استعادة بعض الصلاحيات التي انتزعت من رئيس الجمهورية تحركت الحساسيات والشكوى من laquo;قضمraquo; صلاحيات رئيس الوزراء (السّنّي) لإعادتها إلى صلاحيات رئيس الجمهورية (الماروني). ألسنا في حقبة جمهورية الطائف والطوائف؟

وفي مطلع الألفية الثالثة عصفت الرياح المدمرة وهذه المرة من العراق حيث ارتكبت السياسات الأميركية في حينه ولا تزال أخطاءَ قاتلة تتصل بوحدة العراق وتجزئته. وها هي القوات الأميركية تغادر العراق (مع بقاء 50 ألف جندي للتدريب) مقطع الأوصال وفي حالات تقسيمية واضحة أو مقنعة (من قناع)، فها هم الأكراد في الشمال يمارسون ويتمتعون بالحكم الذاتي فيما مشروع laquo;الدولة الشيعيةraquo; في الجنوب، والتعاطي المباشر مع الجار الأقرب إيران. حتى تأكدت الهيمنة الإيرانية الفعلية على الواقع العراقي، وتظهر بإصرار طهران على ضرورة وجوب تولي نوري المالكي رئاسة الوزراء على رغم معارضة أطراف إقليمية وحتى دولية لهذا الاختيار. وبعد أزمة تواصلت على مدى ثمانية أشهر أمكن بغداد أن تكون لها الحكومة الحالية. وماذا عن باقي العراق؟ هناك ما يطلق عليه laquo;الجيب السنّيraquo; في الوسط.

حتى وصل الأمر إلى السودان وتكريس انفصال الجنوب عن الشمال. حيث ينطوي المخطط الانفصالي على أكثر من علامة استفهام مُريبة.

وlaquo;نجمraquo; انفصال جنوب السودان عن شماله هو الرئيس السوداني laquo;الموحدraquo; للساعات القليلة القادمة وكلنا نذكر الحكم الذي أصدرته محكمة دولية والذي قضى باعتقال البشير فرد بالتحدي. والآن سيحصل على مكافآت مجزية وعلى جوائز ترضية وقيمة. هذا هو المطلوب من العدالة الدولية وبدعم من الولايات المتحدة سيتم إلغاء مذكرة الاعتقال، وتعطيل عمل المحكمة، إضافة إلى إسقاط الديون المتراكمة على السودان. هل هذه هي العدالة الدولية؟

ومن الظواهر التي تثير السخرية السوداءَ وعلى طريقة laquo;شر البلية ما يضحكraquo; قام البشير قبل أربعة أيام بزيارة جوبا (العاصمة الجديدة) للسودان وخطب في الجماهير هاتفاً laquo;نحن مع خياركم، فإن اخترتم الانفصال فسأحتفل معكمraquo;.

وفي السياق نفسه فإن تكريس انفصال جنوب السودان عن شماله لا تقتصر تداعياته على جغرافية محددة، وعلى سبيل المثال لا الحصر ستكون مصر طليعة هذه الدول نظراً إلى التاريخ الطويل الذي ربط السودان بمصر، ويسود اعتقاد لدى بعض المتابعين عن قرب لـ laquo;المسألة السودانيةraquo; ان الدولة الجديدة معظم سكانها ينتمون إلى مذاهب مسيحية مختلفة، الأمر الذي يحتم طرح السؤال حول مصير هذه الجاليات، بخاصة أن عمر البشير أعلن أخيراً أنه سيُعلن دين الدولة (الشمال) الإسلام. وكذلك هناك بعض الجاليات المسيحية في هذه البقعة الجغرافية، وكنتاج للتقسيم والانفصال ما الذي سيحل بهذه الجاليات؟ هذا من جانب لكن الجانب الآخر والأهم يتصل بالعلاقات التي ستنشأ بين الدولة السودانية الجديدة وباقي الدول بخاصة تلك التي تسعى إلى إقامة أفضل الروابط معها وهنا يطرح الدور الأميركي وضمان مصالحه في هذه البقعة الغنية بالنفط وبثروات أخرى.

ونتابع الجولات الانفصالية والتقسيمية حيث لا يمكن تجاهل الذي يجرى في اليمن والرياح التقسيمية الواضحة بين laquo;يمن صنعاءraquo; وlaquo;يمن عدنraquo;.

وفي الحديث عن اليمن يجب التطرق إلى مسألة حيوية ومهمة، وتتصل باعتبار واشنطن اليمن هي خط أحمر بالنسبة للأمن الأميركي حيث ينطلق الكثير من النشاطات الإرهابية. وتقرر أخيراً منح اليمن مساعدات مالية ضخمة كجزء من مخطط مكافحة الإرهاب عن طريق التنمية المتوازنة في سائر أنحاء اليمن، وذلك بعد ما اقتنع الغرب الأميركي منه والأوروبي بأن مكافحة الإرهاب ليست عملية أمنية فحسب. لكن المهم في الأمر أن يتم إنفاق هذه الأموال بعيداً من عمليات الفساد والزبائنية.

وفي المحصلة الأخيرة تجب ملاحظة الأمور الآتية:

أولاً: ما كان يجري الحديث عنه والتحذير منه من عمليات تقسيم وتفتيت المنطقة يدخل حالياً مرحلة بالغة الخطورة. وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن ارتدادات هذه المخططات البركانية التأثير والطابع لن تقتصر على حدود جغرافية معينة، ندرك أكثر فأكثر ما يمكن ان تؤول إليه هذه التصورات على صعيد المنطقة ككل.

ثانياً: قال الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية بي جي كراولي: ان عام 2011 سيكون عام السودان ولبنان! السودان فهمنا، لكن ماذا عن لبنان؟ وهل من علاقة بين هذا الكلام وخطورة انتقال عدوى laquo;السودنةraquo;.

ثالثاً: يقدم دعاة الانفصال والتقسيم نماذج قائمة تؤكد جدوى التمتع بالاستقلال الذاتي، ويطرحون على سبيل المثال: الولايات المتحدة الأميركية، التي هي في نهاية الأمر مكان رحب تلاقت فيه مجموعة من الأقليات وجعلت منه البلد الأقوى والأكبر في العالم. كذلك يجرى الحديث عن الاتحاد السويسري والذي كثيراً ما يقدم كنموذج مثالي على الحياد. مع العلم أن سويسرا شهدت في حقبة تاريخية معينة الكثير من الحروب والاقتتال توصلاً للقناعة بإمكان التعايش بين جنسيات مختلفة ومذاهب متعددة. ويقدم البعض هذا الطرح برسم لبنان واللبنانيين كصيغة قابلة للعيش أو حتى للتعايش، ألم يكن يطلق على لبنان سويسرا الشرق؟

رابعاً: ان التفجيرات التي وقعت أخيراً في كنسية القديسين في الإسكندرية، وقبلها التفجيرات التي استهدفت كنسية سيدة النجاة في بغداد تعكس تركيز المنظمات الإرهابية على الإيقاع بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية وتوجيه إصابات مباشرة إلى العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين، وخطورة ما يجرى أنه يؤدي إلى تداعيات مدمرة لجهة إرغام أعداد كبيرة من الطوائف المسيحية على اختلافها إلى مغادرة أراضيهم ومنازلهم. ولا يكفي توجيه النداءات من هنا وهناك تطالب بصمود هذه الفئات حيث هي من دون تأمين الحمايات الرادعة لأي عمل إرهابي يستهدف هذه الفئات.

لقد أثارت تفجيرات العراق ومصر ردود أفعال شاجبة ومستنكرة من مختلف الديانات والمرجعيات وأحد هذه الأصوات التي عكست حالة الضيق التي يعايشونها، ومنهم زعيم اللقاء الديموقراطي وليد جنبلاط الذي دعا إلى laquo;وقفة عربية حاسمة إلى جانب مصر لمساعدتها على تخطي الأخطار المحدقة بها من كل حدب وصوب، ومن بينها الإرهاب الذي يؤكد في كل مرة أن لا دين له ولا طائفة، فهو يضرب حيث يرى مصالحه وهو ما حاول هذه المرة النيل من استقرار مصر ووحدتها الداخلية وسلمها الأهليraquo;. ويضيف: laquo;تواجه مصر الكثير من التحديات ولا سيما في أمنها المائي بعد التقسيم المتوقع للسودان، وبعدما سبق ان حاول بعض الدول وضع يده على مجرى نهر النيل ومنابعه، وهذا الأمر له انعكاساته على مستوى أمنها الغذائي مع النمو السكانيraquo;.

وهذه واحدة من الصيحات التي يجب ان تعبر عن نفسها والتنادي إلى مشاورات عدة عاجلة ومكثفة من أجل التفاهم على كيفية مواجهة الموجات الإرهابية والتي هي والنزعات الانفصالية والتقسيمية تؤلف الخطر المصيري الأكبر على حاضر الأمة ومستقبلها. فهل من يستمع؟ وهل من يستجيب؟

وأخيراً: أين لبنان من كل ما يجرى؟

ما زال صناع القرار أو بعضهم على الأقل في حالة بحث عن استيراد وطن من الخارج! لأن زعماءَ laquo;الفصائل اللبنانيةraquo; عاجزون عن الجلوس إلى طاولة واحدة للتفاهم أو حتى لتنظيم الاختلاف على الأقل.