بينة الملحم

لم يدر بخلد الأديب العالميquot;أميل لودفيجquot; أن تمر الاسكندرية بتفجير يوازي ضخامة وبشاعة أحداث كنيسة quot;القديسينquot;؛ ذلك الأديب هو من قال عنها:quot; الإسكندرية ملكة البحر المتوسطquot;، تلك المدينة هي حورية جمهورية مصر، والاعتداء جاء ليكشف عن بشاعات كثيرة؛ التفجيرات فتحت فوهةً من المسكوت عنه، وستكون منعطفاً مصرياً نحو المراجعة والمحاسبة والتأمل. الحدث سيكون فاصلاً بين مرحلتين، ما قبل الحادثة وما بعدها. لهذا أظن أن المراجعة ينبغي أن تشمل بالدرجة الأولى تاريخ التصعيد ضد quot;الأقباطquot; الذين استهدفهم التفجير.

هذا الحدث المحرج جعل من الجماعات الإسلامية في مصر تشترك في quot;حملات التنديدquot;. فلأول مرة في تاريخها تندد quot;الدعوة السلفيةquot; ضد التفجير بسبب كون التفجير محرجاً للدعوة السلفية التي اعتاد المراقبون على اعتبار الاسكندرية معقلاً لها. وأطل الإخوان المسلمون برأس بيانٍ اعتبروا فيه تلك التفجيرات quot;جريمة خطيرةquot; وأن الحدث جاء في سياق quot;تطور نوعي يستهدف حرمة أمن الوطن، وتمزيق نسيجه الاجتماعيquot;. كل جماعةٍ تحاول أن تنأى بنفسها عن المسؤولية المباشرة والمعنوية من تبعات الحدث الذي هزّ مصر.

عرف العرب المجتمع المصري مجتمعاً quot;متديناًquot; لكنه لم يكن أبداً يتصف بquot;الطائفيةquot;، ذلك الوصف لا يمكن أن ينطبق على المجتمع المصري الذي عرف مبكراً صيغ التعايش والوداد بين مختلف طوائفه. لكن الصيغة الطائفية تحضر في بعض طبقات الخطاب لدى فلول بعض الجماعات، وإذا عدنا إلى نموذجين من الجماعات الإسلامية لنبحث في سر نمو الخطاب الطائفي وquot;أيديولوجيا اغتيال الأقباطquot; سنجدها حاضرةً في أدبيات جماعتين أساسيتين في مصر، وهما quot;الجماعة الإسلامية في مصرquot; و quot;جماعة الإخوان المسلمينquot;.

أهدرت الجماعة الإسلامية في مصر دماء الأقباط وذلك قبل أن يقوم أعضاؤها بquot;المراجعاتquot;. كبير المنظّرين في الجماعة الإسلامية الدكتور ناجح إبراهيم أعلن تراجعه عن ذلك الإهدار الذي ساد في خطاب الجماعة على مدى عقود وساهم في التأثير على مخيال الأتباع، لكنه تراجع متأخراً بعد أن تغلغل الفكر في سلوك الأتباع، يقول:quot;إن الأقباط يحكمنا بهم مبدأ أساسي في التعامل معهم، إننا نسيج الوطن، وإن الإسلام كفل لهم حقوقاً أكثر من الحقوق التي يكفلها أي نظامٍ آخرquot;. (جريدة الشرق الأوسط 30-7-2005). لكن مراجعات الجماعة لم تزد على أن الأقباط quot;أهل ذمةquot; لا تجوز مقاتلتهم حتى وإن لم يدفعوا الجزية (كتاب مبادرة وقف العنف:رؤية واقعية وشرعية).

أما في أدبيات وتنظير quot;جماعة الإخوانquot; فيمكننا أن نعود إلى موقفهم الأصيل من الكنائس المأوى الرمزي للأقباط في مصر، وذلك في مجلة الدعوة بين عامي (1976-1981) والتي يعتبرها الباحثون بمثابة: quot;الإعلان الايديولوجي الصريح عن رؤية الجماعة من منظورها الفكريquot;. نقرأ في العدد رقم 56 من مجلة الدعوة إجابات عضو الإرشاد الشيخ: محمد عبدالله الخطيب عن سؤال حول حكم بناء الكنائس، يجيب المفتي الإخواني:quot;إن حكم بناء الكنائس في ديار الإسلام على ثلاثة أقسام:1-بلاد أحدثها المسلمون وأقاموها وهذه البلاد لا يجوز فيها إحداث كنيسةٍ ولا بيعة، 2-ما فتحه المسلمون من البلاد بالقوة كالاسكندرية بمصر والقسطنطينية بتركيا فهذه أيضاً لا يجوز بناء هذه الاشياء فيها، 3-ما فتح صلحاً بين المسلمين وسكانها والمختار هو إبقاء ما وجد فيها من كنائسquot;.

نحتار بين مفتي الإخوان في فتواه، وبين بيان الإخوانيين الذي أدان التفجير، إنها المسافة بين التنظير والإحراج، بين الأدبيات والشحن الذي ضخته الجماعة في نفوس الاتباع وحينما وقع الفأس بالرأس بدأ quot;نواح الإدانةquot;.

إن الخطاب الديني ليس بمنأى عن المسؤولية الواضحة عن التفجيرات الكارثية التي حدثت، نقرأ في الفتوى وبوضوح quot;حرمة إقامة الكنائس في الاسكندريةquot;! أتمنى إن كان لهذه الكارثة من مراجعات أن نحيط بأخبار التحريض التي تنتجها الخطابات لنئدها في مهدها، خاصةً وأن التفجير طال الاسكندرية حاضرة البحر المتوسط وقلبها، والتي قال عنها ظافر الحداد:

لقد ملك الإسكندر الأرضَ وانقضى

وأبْقى له الإسكندريةَ شاهدا!