محمد عبد اللطيف آل الشيخ

في كتابه (من النهضة إلى الرِّدة) ص 192 يُعلق جورج طرابيشي المفكر العربي المعروف على ما أسماه (قانون المثاقفة) وهو رفض الوافد الحضاري في البداية؛ لكنه - إن لم تلفظه معدة الثقافة القومية الإسلامية- لا يلبث مع الزمن أن يتوطن ويتأقلم ويتجنس، بل laquo;يتقومنraquo;. يقول: (الشاهد على ذلك تُقدمه قصة وفود الطماطم إلى حلب في أواخر القرن التاسع عشر. فهذه الخضرة التي تسمى في بلاد الشام (بالبندورة) تحريفا لاسمها الإيطالي (POMMA DORA). وتسمى أيضا في حلب بraquo;الفرنجيةraquo; إشارة إلى أصلها الأجنبي (بالمناسبة إن الطماطم ليست إيطالية, ولا laquo;إفرنجيةraquo; بل هي -مع البطاطا- من الحسنات التي أدتها الزراعة الأمريكية الهندية للبشرية). وقد نفر الحلبيّون من استهلاكها وزراعتها في بادئ الأمر بسبب لونها الأحمر غير المطابق لكونها laquo;خُضرةraquo;, ولهذا السبب لقبها الحلبيون بraquo;مؤخرة الشيطانraquo;, وأصدر مفتي المدينة (فتوى) بتحريم أكلها. ولكن لم تمض سنوات قليلة حتى كانت زراعة الطماطم قد عمت بلاد الشام وraquo;تأصلتraquo; حتى صارت الأصناف الجيدة تعرف باسم laquo;البلديةraquo;) انتهى.

وقد تعامل النجديون في المملكة مع الدراجة الهوائية (البايسكل) بذات الطريقة؛ فقد سموها في أوائل قدومها إلى المنطقة (حصان إبليس)، نظراً لعدم قدرة أذهانهم آنذاك على تصوّر توازن دراجة بعجلتين دون أن يسقط راكبها من عليها، لولا أن قوة شيطانية كانت تحفظ توازنها. وهناك -أيضاً- من أطلق على (الخروف البربري) عندما استورد من إفريقيا إلى نجد (خروف السّكن)، أي الجن باللهجة المحلية، نظراً لاختلاف شكله عن الخرفان المعهودة لديهم؛ ومازال كثيرون من أهل نجد يتحرّجون من ذبح الخروف البربري كأضحية نظراً لكونه جاء من خارج البيئة. وكنت سبق وأن كتبت عن تحريم (القهوة) عند أول ما قدمت إلى المنطقة في القرن العاشر الهجري، وكيف أن بعض الفقهاء آنذاك حرموا شربها، وعاقب بعض الولاة شاربيها بالجلد كتعزير لهم؛ لتتحول فيما بعد إلى مشروب الصالحين كما يصفونها الآن. ويبدو أن الخرافات والأساطير هي آخر (آليات) الإنسان المتخلف في المجتمعات (المنغلقة) لمواجهة القادم الجديد؛ فعندما يعجز عقل الإنسان البسيط والمتخلف عن إدراك كنه الأشياء، أو فهمها، أو يجد في القادم الجديد ما يُثير خوفه وتوجسه، يتحصن بالخرافات كخط دفاع أخير، لتكون له بمثابة السياج الذي يحافظ على خصوصيته الثقافية الموروثة من سطوة الثقافة الجديدة والمتفوقة. غير أن مثل هذه الخرافات والتفسيرات الأسطورية لا تلبث أن تنهار وتتلاشى مع الزمن، لتتحول فيما بعد إلى قصص وروايات تتندر بها الأجيال اللاحقة على بساطة وسذاجة أسلافهم، كما نفعل الآن؛ وهذا ما يسميه جورج طرابشي (قانون المثاقفة).

وفي السياق نفسه، فإن هناك كثيراً من البسطاء مازالوا يعتقدون أن كثيراً من الأمراض النفسية وكذلك بعض الأمراض العضوية هي نتيجة لدخول الجن إلى جسد الإنسان، والتحكم في تصرفاته، وأحياناً أذيّته والإضرار بصحته. ورغم أن الطب الحديث قد فسر مثل هذه الظواهر المرضية تفسيراً علمياً، وعالج كثيراً منها بعيداً عن هذه الاعتقادات الخرافية، إلا أن هناك كثيرين مازالوا يميلون إلى التفسير التراثي الموروث، ويرفضون التفسير (العلمي) لهذه الظواهر. وفي تقديري أن من اعتبر الطماطم في زمن مضى تجلياً من تجليات (مؤخرات الشياطين) لا يختلف أبداً عمّن يعتبر مرض (الصرع) -مثلاً- هو من تجليات عشق الجان للإنسان؛ لا فرق.