فهمي هويدي

طالما أننا عجزنا عن الدفاع عن وحدة السودان، فربما يفيدنا أن نفهم ما جرى، ربما نبهنا ذلك إلى أن انفصال الجنوب ليس نهاية المطاف، ولكنه حلقة في مسلسل تفكيك العالم العربي وتطويق مصر .

-1-

منذ وقت مبكر للغاية أدركت الحركة الصهيونية أن الأقليات في العالم العربي تمثل حليفاً طبيعياً لrdquo;إسرائيلrdquo;، ومن ثم خططت لمد الجسور معها، فتواصل رجالها مع الأكراد في العراق وسكان جنوب السودان، والموارنة في لبنان، والأكراد في سوريا والعراق، والأقباط في مصر، واعتمدت في مخططها على مبدأ فرق تسد، حيث اعتبرت أن تلك هي الوسيلة الأنجع لتفتيت الوطن العربي من خلال خلق كيانات انفصالية في داخلها . واستهدفت بذلك إعادة توزيع القوى في المنطقة، على نحو يجعل منها مجموعة من الدول الهامشية المفتقدة وحدتها وسيادتها، ما يسهل على ldquo;إسرائيلrdquo;، وبالتعاون مع دول الجوار غير العربية، مهمة السيطرة عليها الواحدة تلو الأخرى في ما بعد . يؤكد ذلك أن جميع حركات التمرد التي فجرتها الجماعات الإثنية والطائفية في العالم العربي استمدت الدعم والتأييد والإسناد من الأجهزة ldquo;الإسرائيليةrdquo; التي أنيطت بها مسؤولية تبني تلك الحركات الانفصالية، كما حدث مع الأكراد في العراق وحركة التمرد في جنوب السودان .

هذا الموقف يساعد على فهم واستيعاب الاستراتيجية ldquo;الإسرائيليةrdquo; إزاء المنطقة العربية، التي تستهدف تشجيع وحث الأقليات على التعبير عن ذاتها بحيث تتمكن في نهاية المطاف من انتزاع حقها في تقرير المصير والاستقلال عن الوطن الأم . يؤيد هذه الفكرة ويغذيها أن المنطقة العربية، وعلى خلاف ما يدعي العرب، ليست وحدة ثقافية وحضارية واحدة، وإنما هي خليط متنوع من الثقافات والتعدد اللغوي والديني والإثني . وقد اعتادت ldquo;إسرائيلrdquo; تصوير المنطقة على أنها فسيفساء تضم بين ظهرانيها شبكة معقدة من أشكال التعدد اللغوي والديني والقومي، ما بين عرب وفرس وأتراك وأرمن وrdquo;إسرائيليينrdquo; وأكراد وبهائيين، ودروز ويهود وبروتستانت وعلويين وصابئة وشيعة وسنة وموارنة وشركس وتركمان وآشوريين . . . إلخ .

إن خريطة المنطقة في النظر ldquo;الإسرائيليrdquo; تعرف بحسبانها بقعة من الأرض تضم مجموعة أقليات لا يوجد تاريخ يجمعها، من ثم يصبح التاريخ الحقيقي هو تاريخ كل أقلية على حدة، والغاية من ذلك تحقيق هدفين أساسيين هما:

أولاً: رفض مفهوم القومية العربية والدعوة إلى الوحدة العربية، ذلك أن القومية العربية في التصور ldquo;الإسرائيليrdquo; فكرة يحيطها الغموض، إن لم تكن ذات موضوع على الإطلاق . وهم يعتبرون أن الوحدة العربية خرافة، فالعرب يتحدثون عن أمة واحدة، لكنهم يتصرفون كدول متنافرة . صحيح أن ما يجمع بينهم هو اللغة والدين، وهما يجمعان بعض الشعوب الناطقة بالإنجليزية أو الإسبانية من دون أن يخلق منها أمة واحدة .

ثانياً: تبرير شرعية الوجود ldquo;الإسرائيليrdquo; الصهيوني في المنطقة، إذ هي، وفقاً لذلك التوجه، تصبح خليطاً من القوميات والشعوب واللغات، وتصور قيام وحدة بينها هو ضرب من الوهم والمحال . النتيجة المنطقية لذلك هي أن تكون لكل قومية دولتها الخاصة بها، ومن هذه الزاوية تكتسب ldquo;إسرائيلrdquo; شرعيتها، حيث تصبح إحدى الدول القومية في المنطقة .

-2-

لست صاحب الفقرات السابقة، ولكنني نقلتها نصاً من كتاب ldquo;ldquo;إسرائيلrdquo; وحركة تحرير جنوب السودانrdquo; الذي صدر عام 2003 عن مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط وإفريقيا . ومؤلفه هو عميد الموساد المتقاعد موشي فرجي . وقد سبق أن استشهدت به وأشرت إليه أكثر من مرة من قبل . لكنني اعتبرت أن استعادة الشهادة في الوقت الراهن لها مذاقها الخاص، لأننا بصدد لحظة حصاد ثمار الزرع الذي غرسته ldquo;إسرائيلrdquo; والقوى الدولية الواقفة معها منذ خمسينات القرن الماضي .

أستأذن هنا في ldquo;فاصل قصيرrdquo; نترك فيه مؤقتاً نص العميد فرجي، لنقرأ نصاً آخر ورد في شهادة وزير الأمن الداخلي ldquo;الإسرائيليrdquo; الأسبق آفي ايختر، تطرق فيه إلى السودان في محاضرته التي ألقاها في عام 2008 أمام معهد أبحاث الأمن القومي الصهيوني .

قال صاحبنا عن السودان ما يأتي: كانت هناك تقديرات ldquo;إسرائيليةrdquo; منذ استقلال السودان في منتصف الخمسينات أنه لا يجب أن يسمح لهذا البلد رغم بعده عنا، بأن يصبح قوة مضافة إلى قوة العالم العربي، لأن موارده إذا ما استمرت في ظل أوضاع مستقرة، ستجعل منه قوة يحسب لها ألف حساب .

في ضوء هذه التقديرات كان على ldquo;إسرائيلrdquo; بمختلف أجهزتها وأذرعها أن تتجه إلى الساحة السودانية، لكي تفاقم من أزماتها وتسهم في إنتاج أزمات جديدة، بحيث يكون حاصل تلك الأزمات معضلة يصعب معالجتها في ما بعد .

لأن السودان يشكل عمقاً استراتيجياً لمصر، وهو عنصر تجلى بعد حرب عام ،1967 حين تحول السودان ومعه ليبيا إلى قواعد تدريب وإيواء سلاح الجو المصري والقوات البرية، علماً بأن السودان أرسل قوات إلى منطقة القناة أثناء حرب الاستنزاف التي شنتها مصر بين عامي 1968 و،1970 لهذين السببين أضاف ديختر كان لابد أن تعمل ldquo;إسرائيلrdquo; على إضعاف السودان وانتزاع المبادرة منه لعدم تمكينه من بناء دولة قوية موحدة . وهذا المنظور الاستراتيجي يشكل إحدى ضرورات دعم وتنظيم الأمن القومي ldquo;الإسرائيليrdquo; . (لاحظ أن المحاضرة ألقيت في عام 2008 بعد نحو ثلاثين عاماً من توقيع اتفاقية السلام بين مصر وrdquo;إسرائيلrdquo; عام 1979) .

حين سئل الرجل عن مستقبل جنوب السودان كان نص رده كالتالي: هناك قوى دولية تتزعمها الولايات المتحدة مصرة على التدخل المكثف في السودان لكي يستقل الجنوب، وكذلك إقليم دارفور، على غرار استقلال كوسوفو، حيث لا يختلف الوضع في جنوب السودان ودارفور عن كوسوفو، في حق الإقليمين في التطلع إلى الاستقلال واكتساب حق تقرير المصير بعد أن قاتل مواطنوهما لأجل ذلك .

-3-

دعم ldquo;إسرائيلrdquo; للمتمردين في جنوب السودان، مر بخمس مراحل سجلها العقيد فرجي في كتابه على النحو الآتي:

المرحلة الأولى: بدأت في الخمسينات، مباشرة بعد تأسيس دولة ldquo;إسرائيلrdquo; . وخلال تلك الفترة التي استمرت نحو عقد من الزمن اهتمت ldquo;إسرائيلrdquo; بتقديم المساعدات الإنسانية (الأدوية والمواد الغذائية والأطباء)، كما حرصت على تقديم الخدمات للاجئين الذين كانوا يفرون إلى إثيوبيا . وفي هذه المرحلة بدأت أولى المحاولات لاستثمار التباين القبلي في جنوب السودان ذاته لتعميق حدة وهوَّة الصراع، ومن ثم تشجيع الجنوب على الانفصال . كما قام ضباط الاستخبارات ldquo;الإسرائيليةrdquo; الذين تمركزوا في أوغندا بفتح قنوات الاتصال مع زعماء قبائل الجنوب لدراسة الخريطة السكانية للمنطقة .

المرحلة الثانية: (بداية الستينات): اهتمت ldquo;إسرائيلrdquo; بتدريب عناصر من الجيش الشعبي على فنون القتال، في مراكز خاصة أقيمت في إثيوبيا . وفي هذه المرحلة تبلورت لدى الحكومة ldquo;الإسرائيليةrdquo; قناعة بأن توريط السودان في الحروب الداخلية كفيل بإشغاله عن أي مساندة يمكن أن تقدم إلى مصر في صراعها مع ldquo;إسرائيلrdquo; . وكانت منظمات التبشير تقوم بنشاط ملحوظ في الجنوب، الأمر الذي شجع ldquo;إسرائيلrdquo; على إيفاد عناصرها الاستخبارية إلى الجنوب تحت شعار تقديم العون الإنساني، في حين أن الهدف الأساسي كان استيعاب عناصر مؤثرة من السكان لتدريبهم لإدامة التوتر في المنطقة . وفي هذه المرحلة أيضاً عمدت ldquo;إسرائيلrdquo; إلى توسيع نطاق دعمها للمتمردين، عن طريق تقديم الأسلحة لهم عبر الأراضي الأوغندية، وكانت أولى تلك الصفقات في عام ،1962 ومعظمها كانت من الأسلحة الروسية الخفيفة التي غنمتها ldquo;إسرائيلrdquo; في عدوانها على مصر عام ،1956 واستمرت عمليات تدريب المقاتلين الجنوبيين في أوغندا وإثيوبيا وكينيا، ثم الدفع بهم للاشتراك في القتال داخل الحدود السودانية .

المرحلة الثالثة: التي امتدت من منتصف الستينات وحتى السبعينات، وقد استمر خلالها تدفق الأسلحة على الجنوبيين من خلال تاجر أسلحة ldquo;إسرائيليrdquo; وسيط اسمه جابي شفين كان يعمل لمصلحة الاستخبارات، وأرسلت إلى الجيش الشعبي شحنات من الأسلحة الروسية التي غنمتها ldquo;إسرائيلrdquo; في حرب ،1967 وقامت طائرات الشحن ldquo;الإسرائيليةrdquo; بإسقاط تلك الأسلحة والمعدات على ساحة المعسكر الرئيسي للمتمردين في أورنج كي بول . كما قامت ldquo;إسرائيلrdquo; بإنشاء مدرسة لضباط المشاة في (ونجي كابول) لتخريج الكوادر اللازمة لقيادة فصائل التمرد . وكانت عناصر ldquo;إسرائيليةrdquo; تشترك في المعارك لتقديم خبراتها للجنوبيين . وفي هذه المرحلة أيضاً تم استقدام مجموعات من الجيش الشعبي إلى ldquo;إسرائيلrdquo; لتلقي تدريبات عسكرية . وفي بداية السبعينات فتحت بشكل رسمي نافذة أخرى لإيصال الدعم ldquo;الإسرائيليrdquo; إلى جنوب السودان عبر أوغندا .

وحينما بدا أن حركة التمرد على وشك الانتهاء في عام ،1969 بذلت ldquo;إسرائيلrdquo; جهداً هائلاً لحث المتمردين على مواصلة قتالهم، واستخدمت في ذلك كل أساليب الكيد والدس التي استهدفت إقناع الجنوبيين بأنهم يخوضون صراعاً قومياً مصيرياً بين شمال عربي مسلم محتل وجنوب زنجي إفريقي مسيحي ووثني، يعاني فيه أهل الجنوب من الحرمان والظلم .

المرحلة الرابعة: الممتدة من أواخر السبعينات وطوال عقد الثمانينات . وفيها شهدت القارة الإفريقية عدة تقلبات لم توقف دعم ldquo;إسرائيلrdquo; للمتمردين، وقد ازداد الدعم بعدما أصبحت إثيوبيا ممراً منتظماً لإيصال الأسلحة للجنوب . وبرز جون قرنق في هذه المرحلة كزعيم ساندته ldquo;إسرائيلrdquo; واستقبلته في تل أبيب وزودته بالمال والسلاح، وحرصت على تدريب رجاله على مختلف فنون القتال، وكان بينهم عشرة طيارين تدربوا على قيادة المقاتلات الخفيفة .

المرحلة الخامسة: بدأت في أواخر عام 1990 واستمر الدعم ldquo;الإسرائيليrdquo; واتسع نطاقه، وأصبحت الشحنات تصل إلى الجنوب عبر كينيا وإثيوبيا . وقد زودت ldquo;إسرائيلrdquo; الجنوبيين بالأسلحة الثقيلة المضادة للدبابات والمدافع المضادة للطائرات . ومع بداية عام 1993 كان التنسيق بين ldquo;إسرائيلrdquo; والجيش الشعبي قد شمل مختلف المجالات، في ما خص التمويل والتدريب والتسليح والمعلومات وإشراف الفنيين ldquo;الإسرائيليينrdquo; على العمليات العسكرية .

-4-

كما رأيت وبشهادتهم فإنهم لم يغمضوا أعينهم لحظة عن جنوب السودان منذ نصف قرن .

من الملاحظات الأخرى الجديرة بالانتباه أن حركة التمرد في الجنوب بدأت في عام 1955 أي قبل عام واحد من إعلان الاستقلال في عام ،1956 بما يعني أن التمرد حين انطلق لم يكن له علاقة بفكرة تطبيق الشريعة التي دعت إليها حكومة الإنقاذ (البشير الترابي) في سنة 1989 .

من تلك الملاحظات أيضاً أنه في الوقت الذي كانت فيه ldquo;إسرائيلrdquo; تدعم الجنوبيين بالسلاح، فإن الدول الغربية كانت تواصل مساعيها الدبلوماسية لترتيب أمر انفصال الجنوب من خلال الاستفتاء . فاتفاقية نيفاشا للسلام التي وقعت بين حكومة الخرطوم والمتمردين تمت برعاية أمريكية نرويجية بريطانية إضافة إلى منظمة ldquo;إيقادrdquo; . وهذه الاتفاقية تم التوصل إليها عبر سلسلة من المفاوضات المتقطعة في أديس أبابا ونيروبي وأبوجا عاصمة نيجيريا . كما أن اتفاق ماشاكوس الأول تم بناء على مبادرة قدمتها الولايات المتحدة .

منذ أكثر من نصف قرن وهم يمهدون للانفصال بالسلاح في جانب وبالضغوط والألاعيب الخبيثة في جانب آخر . ولو أن ربع هذا الجهد الدولي بذل لحل مشكلة فلسطين لأغلق ملف القضية واسترد الفلسطينيون حقوقهم منذ زمن بعيد . لكن تقرير المصير والاستقلال حلال على الجنوبيين حرام على الفلسطينيين .

لقد خططوا لأجل الانفصال وتحقق لهم ما أرادوا، أما العرب فقد وقفوا متفرجين على ما يجري وذاهلين عن مراميه، وكانت النتيجة أن الذي زرع حصد الاستقلال، ومن وقف متفرجاً ذاهلاً حصد الخيبة، التي أرجو ألا تكون لخيبات أخرى في العام الجديد .