نورالدين قلالة

أظهر المؤشر السنوي لعام 2010 للدول الأفضل معيشة في العالم, أن الجزائر من أتعس الدول حياة، حيث تحتل المرتبة 139 من بين 192 دولة تضمنتها الدراسة، وتقدمت الجزائر بحسب التقرير الذي نشرته مجلة laquo;إنترناشيونال ليفينغraquo; على موقعها الإلكتروني من الدرجة 146 في تصنيف 2009 إلى 139 في تصنيف 2010. وقسمت المجلة الأميركية التي أعدت الدراسة معايير قياس نوعية الحياة إلى تسعة مؤشرات رئيسية تعكس مستوى الحياة الاقتصادية والاجتماعية هي: مؤشر الأمن والمناخ وتكلفة المعيشة والثقافة والترفيه والصحة ثم الاقتصاد ومؤشر حماية البيئة ومؤشر البنية التحتية وأخيراً مؤشر الحريات.
عندما تتحدث هذه الأرقام عن دولة مثل الجزائر، بلغت مداخيلها من تصدير البترول والغاز حوالي 65 مليار دولار لعام 2010، وبلغ احتياطي العملة الأجنبية فيها أكثر من 155 مليار دولار مع نهاية العام الماضي. عندما تتحدث هذه الأرقام عن دولة laquo;قارةraquo; مساحتها حوالي 2.4 مليون كيلومتر مربع، أكبر 4 مرات من مساحة فرنسا أو إسبانيا، وهي الأولى عربيا وإفريقياً إذا ما اختار جنوب السودان الانفصال عن الشمال، وتملك ساحلا من أطول السواحل في العالم يتجاوز 1200 كيلومتر. عبارة عن شاطئ وجبل وغابات، وتوزيع جغرافي غاية في الثراء من الشمال إلى الجنوب: الساحل، والتل، والهضاب العليا، والمرتفعات الأطلسية، والصحراء. ودولة برصيد ثوري يشهد له المجتمع الدولي، بثورة اعتُبرت إحدى معجزات القرن العشرين بأكثر من مليون ونصف مليون شهيد، وموروث ثقافي أخرج السينما الجزائرية للعالمية في عام 1975 عندما فاز فيلم laquo;وقائع سنين الجمرraquo; بالسعفة الذهبية في مهرجان laquo;كانraquo; السينمائي، والجزائر حتى الآن هي الدولة الوحيدة إفريقياً وعربياً التي تفوز بهذه الجائزة. عندما تتحدث تلك الأرقام عن بلد يزخر بكل الخيرات التي يعرفها العالم، ونسبة شباب تفوق الـ%75، ولغات متعددة وثقافات متنوعة، وموقع جغرافي ممتاز ووو...
فوق هذا كله, الأدوار السياسية التي لعبتها الجزائر عربيا ودوليا وفي إطار عدم الانحياز، وقدرتها على أن تمثل فعليا laquo;دبلوماسية الوسائطraquo; بتسويتها للعديد من القضايا الدولية، وتدخلها في تسوية البعض الآخر.
لست أعدد خيرات هذا البلد، لأنه ليس بحاجة لذلك، ولكن القصد من وراء هذا كله القول أن دولة بهذا الوزن السياسي والتاريخي والاقتصادي والثقافي، دولة بهذا الموروث هل يمكن أن تحدث فيها laquo;مظاهرات خبزيةraquo; تتحدث عن الزيت والسكر والدقيق. هل يعقل هذا؟ إذا لم يشفع هذا الإرث الحضاري الكبير على الأقل في الحفاظ على أبجديات الحياة اليومية للمواطن فحتما هناك خلل ما.
وعند الحديث عن الخلل، أول ما يتبادر إلى الأذهان اتجاه الأنظار مباشرة إلى تغيير السلطة السياسية ممثلة في رئيس الدولة أو رئيس الحكومة أو الوزير المعني مباشرة بأحداث الشغب والمظاهرات، قد يكون الأمر ضروريا وملحا، لكنه أيضا قد يكون مدفوعا من جهات لها مصالح معينة بعيدة عن مطالب المتظاهرين، وبالتالي يصبح تغيير السلطة مجرد مسكن للألم وليس علاجا حقيقيا للأزمة، والدليل على ذلك أن الجزائر من أكثر الدول العربية التي عرفت تغيرا سياسيا وطبقت مبدأ التداول على السلطة على أكثر من صعيد، في حين أن دولا عربية كثيرة في المغرب العربي كما في مشرقه، لم تعرف معنى للتغيير منذ الاستقلال، بل إن هذا المصطلح غير معترف به في قاموسها السياسي. في حين أن الجزائر عرفت خلال العشرين سنة الماضية 4 رؤساء دول وأكثر من عشر حكومات، ورغم ذلك لم تتغير أشياء كثيرة في الجزائر، وبقي هذا البلد يعرف بين عشرية وأخرى انتفاضة لجبهته الاجتماعية ومظاهرات ناقمة على الوضع المعاش، فبرغم أن ترتيب الجزائر عالميا من حيث الناتج المحلي الإجمالي هو 51 من أصل 195 دولة، إلا أن نسبة البطالة فيها مرتفعة نسبيا, إذ تبلغ %17.7 واحتلت بذلك المرتبة 17 حسب إحصاءات سنة 2004.
الجزائريون كشعب حيوي دائم الثورة والانتفاضة يحاول في كل مرة الدفع نحو التغيير الذي يكون عادة تغييرا سطحيا، لا يتناول القضايا الأساسية في مسار منفصل تماما عن الغرض من الثورة على القائم، وبالتالي المشكلة ليست في السلطة بل في النظام، المشكلة ليست في رئيس الدولة أو رئيس الحكومة أو الوزير. المشكلة في ميكانزمات النظام السياسي ككل، فإما هي ميكانزمات قديمة أكل عليها الدهر وشرب وحلَّى وغطَّ في نوم عميق، وإما هي ميكانزمات تسيرها جماعات ضغط معينة تبقي الثروة في يد وترفع عصا منع الثورة في يدها الأخرى، لتبقى الحال على ما هي عليه وعلى المتضرر أن يلجأ إلى القضاء. الوصول إلى هذه النتيجة أمر تحكمه مؤشرات عديدة لعل أهمها ظروف الانتفاضة في حد ذاتها، ففي عام 1988 انتفض الجزائريون في الخامس من أكتوبر، وكانت فعلا laquo;ثورة خبزيةraquo; لأن أسعار النفط آنذاك كانت في الحضيض، بالإضافة إلى تصاعد التيار الإسلامي الذي غذى -إلى حد ما- الاحتجاجات، واليوم في 2010 في الخامس من يناير، وكأن الجزائريين مصممون على الرقم خمسة، تيمناً بعيد الاستقلال في الخامس يوليو، تهتز الشوارع ويخرج الناس لحرق وقلب وتكسير كل ما له علاقة بالدولة التي ألهبت الأسعار بحجة أن هذه الأخيرة لم تتغير منذ عشرات السنين، لكن الظرف الاقتصادي العالمي مغاير تماما لعام 1988، الجزائر اليوم تكاد تكون في بحبوحة اقتصادية بعائداتها النفطية واحتياطها من العملة الصعبة.
وعلى هذا الأساس فإن ربط ما يحدث بالاقتصاد العالمي وبظروف الدولة أمر غير صحيح وغير منطقي، ولم يعد مقنعا لأحد، لأن أبسط مواطن يدرك اليوم أن سبب الارتفاع في الأسعار هو الاحتكار المدعوم من قبل الدولة لأفراد laquo;ذوي نفوذraquo; على استيراد المواد الأساسية والتحكم في أسعارها من أجل الربح الفاحش، خاصة في ظل غياب المتعاملين الأجانب، وفي ظل رفض الدولة منح صفقات الاستيراد للشباب الجامعيين، الذين يملكون مستويات تؤهلهم لاقتناص الفرص والتحضير الجيد لتهديدات مثل التي تعم الجزائر حاليا.
كل هذا ولم نتحدث عن المقارنات الغريبة التي يقوم بها البعض من هنا وهناك بين الجزائر وتونس، أو بين الجزائر وغيرها من الدول. أعتقد أنه لا وجه للمقارنة بين دولة لا تتجاوز عائداتها 10 مليارات دولار أو مليارين، ودولة عائداتها 56 مليار دولار! والغريب أن دولاً مثل لبنان ومصر وتونس مثلا تجد منتجاتها منتشرة بشكل رهيب في أسواق دولية كما في الخليج، في حين لا تجد قارورة مياه معدنية واحدة أو حتى حبة حلوى مكتوب عليها laquo;صنع في الجزائرraquo;. حتى إنه يتبادر إلى ذهنك أن الجزائر تنتج الشغب والمظاهرات فقط.
إذن ماذا يفيد قرار الحكومة الجزائرية بتخفيض أسعار السكر، وقد بلغت نسبة السكر في دم الجزائري ذروتها، وهو شعب مصنف من الشعوب الأكثر استهلاكا للسكر في العالم، وتقول الدولة الجزائرية إن 1.7 مليون جزائري مصابون بداء السكري.
ماذا يفيد أن تعدل الدولة بعض الأسعار لتأتي بعد عشرية من الزمن وتضاعفها مرة أخرى, بل ماذا يفيد هذا الرقص على كل الحبال، مرة أسعار النفط ومرة الإرهاب والوضع الأمني ومرة الأزمة الاقتصادية العالمية، ماذا يفيد الرقص على ذقون شعب تنمو الثورة في أحشائه في اليوم بدل المرة مرتين، وهو يدرك تمام الإدراك أن الوصول إلى أقصى مبتغاه (حياة كريمة وبسيطة فقط) ينبغي عليه أن يحسن laquo;الرقص مع الذئابraquo; على غرار الفيلم الأميركي الذائع الصيت الذي قدم اعتذارا متأخرا للهنود الحمر لما ارتكبته أيادي الرجل الأبيض من جرائم في حقه.
لكن يبدو لي أنه حتى الرقص لم يعد ممكنا في الجزائر التي لم تجد خيرة من يمثلها في مهرجان دولي للرقص المعاصر أقامته مؤخرا، بعد أن فقدت أفضل راقصيها الذين طلبوا اللجوء في كندا خلال جولة لهم هناك.
فمن يرقص مع الذئاب في الجزائر؟