عادل الطريفي


خلال الأيام الماضية، شهدت تونس والجزائر اندلاع أعمال عنف واحتجاجات غير معتادة، حيث سقط بعض القتلى في صفوف المتظاهرين ورجال الأمن. ففي تونس سارع البعض إلى اعتبار ما حدث انتفاضة للشباب العاطلين عن العمل ضد ما وصفوه بالتضييق، وانعدام الأمل في الحصول على وظائف، وتردي الأحوال الاقتصادية. حقوقيون وناشطون ومدونون اعتبروا ما حدث انتفاضة مبررة، وسارعوا إلى تحميل الحكومة المسؤولية عما يحدث من اضطراب في الشارع. الأزمة وصلت إلى طريق مسدود بعد سقوط عدد من القتلى إلى الحد الذي طالب فيه أحمد الشابي - أحد قادة المعارضة - الرئيس زين العابدين بن علي بـlaquo;وقف إطلاق النارraquo;!؟
الحكومة التونسية خرجت ببيان تبدي فيه تفهمها لحالة الشاب الذي أحرق نفسه في سيدي بوزيد مفجرا شرارة الاحتجاجات، ووعدت بتخصيص 3.4 مليار يورو لمكافحة البطالة ولتخفيف الأزمة الاقتصادية، ولكن الاحتجاجات العنيفة استمرت حتى وصل الأمر إلى تعطيل المواقع الإلكترونية لبعض الوزارات والمؤسسات الاقتصادية فضلا عن المواجهات في الشارع.
الوضع مماثل في الجزائر، حيث انطلقت قوى معارضة شاجبة الوضع، ومدافعة عما سمته الغضب الشعبي ضد الرئيس بوتفليقة والحزب الحاكم، وقد طالت عمليات التخريب مرافق حكومية ومستشفيات. وكما في تونس، اشترك النقابيون والمحامون في التنديد بتقصير الحكومة، ولم يوفر الاتحاد العام للعمال الجزائريين التجار ورجال الأعمال من الاتهام برفع الأسعار والمضاربة.
أمام حالة الاضطراب المفاجأة بات الاستغلال - والتوظيف السياسي - سيد الموقف حيث سارع راشد الغنوشي (حزب النهضة التونسي)، وعلي بلحاج (جبهة الإنقاذ الجزائرية) إلى حث المتظاهرين على تغيير الأنظمة وإسقاطها مما دفع أنصار الحكومتين إلى اتهام الإعلام الخارجي بتضخيم الأحداث، وخدمة أجندة مناوئة للنظام.
الموقف اللافت في كل هذا الاضطراب هو ما نقله الزميل بوعلام غمراسة في تقريره الأحد الماضي بهذه الجريدة عن انتقال أعمال العنف في الجزائر إلى أحياء راقية غربي العاصمة المعروفة بفيلاتها ومطاعمها الفخمة من الأحياء الشعبية، حيث ينتقل المخربون من تلك الأحياء للسطو والتخريب في الأحياء الراقية وسط ملاحقة الشرطة لهم من شارع إلى شارع. سفيان الذي يملك مطعما للشواء لخص الحدث بأنه تخريب متعمد قادم من الأحياء الشعبية، وهو قد قرر الوقوف له بتحويل العاملين عنده إلى حراس للواجهات الزجاجية، وأضاف أحد السكان قائلا: laquo;لا أصدق أن أبناء الحي هم من فعل هذا. فأنا مولود هنا، وعمري يقارب الخمسين ولم أشهد شيئا مثل هذا.. حتى في الأحداث الشهيرة التي شهدتها الجزائر في الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) 1988 لم يتحرك أحد هناraquo;، واختتم الشاهد قوله متهما laquo;أبناء باب الوادي الذين تم ترحيلهم بعد فيضانات 2001 إلى عمارات قريبة من هنا في الدرارية وتقصراينraquo; بارتكاب هذه الأعمال.
من الواضح أن كل طرف في هذه الأحداث لديه روايته الخاصة، أو قراءته لما يجري. هذه القراءة محكومة بالطبع بموقع كل طرف. فبالنسبة للحكومة، الذين يقفون خلف الاحتجاجات العنيفة هم من الغوغاء الذين يحرضهم أعداء يتربصون بالدولة، وبالنسبة للمعارضة فإن المشكلة هي في النظام الحاكم المتفرد بالحكم من دونهم. أما ما يسمى بتيار المجتمع المدني من الناشطين والمدونين - وهم في الغالب معارضة مقنعة تحت شعارات حقوق الإنسان - فالمشكلة هي في غياب الديمقراطية - أو صندوق الاقتراع بالأصح - وحرية التعبير. وأخيرا، يؤكد تيار الإسلام السياسي أن المشكلة هي في اضطهاد الحكومات العلمانية للحركة الإسلامية، والحيلولة دون وصولها للحكم، وتطبيق الشريعة.
فأي هذه المبررات صحيح؟
في مقالة له عن أستاذه الراحل صموئيل هنتنغتون (laquo;فورن بولسيraquo; 5 يناير)، يقول فريد زكريا إن بروفيسور السياسة الدولية بهارفارد كان يقول لتلاميذه: laquo;عليك أن تبدأ من عامل متغير كبير وتصله بعامل ثابت كبير.. إذا قلت للناس إن العالم معقد، فأنت لم تقم بعملك كعالم اجتماع. هم يعرفون مسبقا أن العالم معقد. واجبك أن تبسط، وأن تعطيهم إحساسا بالسبب الوحيد، أو بعض المسببات القوية التي تشرح الظاهرة الكبيرةraquo;.
إذا ما نظرنا إلى حوادث تونس والجزائر بإمكاننا القول إن السبب الرئيسي وراءها اقتصادي، وإن الحكومتين أخذتا على حين غرة بانفلات أمني يصعب احتواؤه بغير المواجهة الأمنية. هذا لا يعني التقليل من حجم ما حدث في البلدين، ولكن إذا كان الهدف هو تحديد السبب المباشر للأزمة فإن المسبب الاقتصادي هو جوهر القصة، ولهذا فإن الحذر في استخدام القوة ضد المدنيين والمسارعة للتخفيف من الضغط المادي هو العلاج المؤقت لحالة الاحتقان الذي قد ينفجر.
ما قيل عن غياب الديمقراطية، وانعدام حرية التعبير، أو حكم الحزب الواحد صحيح. هي جذور عميقة لأزمة الحكم في المنطقة ككل، وليس في تونس أو الجزائر فقط، والحل بإزائها ليس سهلا - أيضا -. فأنت لا يمكنك الذهاب إلى بلد لم يجرب قط الممارسة الليبرالية / الديمقراطية ثم تطلب منه أن يستخدم صندوق الاقتراع، لأنه سيخرج أسوأ ما فيه تماما كما تخرج هذه الاحتجاجات أسوأ ما في المجتمع، ولهذا تنزلق المظاهرات التي تقودها النخب إلى صدامات عنيفة لأن الجمهور يضم الغوغائي والمخرب إلى جانب الناشط الحقوقي والأصولي المتشدد.
ثم إن علينا أيضا أن نشير إلى أن الأنظمة عموما ليست بالضرورة بأسوأ من منافسيها، تأمل فقط في المعارضة الإسلامية في تونس أو جبهة الإنقاذ الجزائرية، والذين لم يوفروا الفرصة في اللجوء إلى العنف ضد المدنيين. النظام قد يمارس العنف لحفظ الأمن، ولكن خصومه من التيارات الإسلامية يمارسون العنف بوصفه جزء من الأيديولوجيا. النظام يحرمك من حقك السياسي، ولكن المعارضة الإسلامية تحرمك من حقك السياسي، ومن حريتك الشخصية، ومن معتقدك الديني والفكري، بل ومن حقك في الاتصال بالعالم.
كما ترى، هناك مبررات عدة، وقراءات مختلفة، وبالنسبة لسفيان laquo;الكبابجيraquo; فإن المشكلة ليست في الحكومة، أو الاقتصاد، أو حتى أبناء الحي، ولكن في المخربين القادمين من باب الوادي