راجح الخوري


في الأساس لم يكن هناك مبادرة واضحة وملموسة بين سوريا والسعودية، وكل ما قيل في الاشهر الاخيرة عن مبادرة تحمل اسم quot;س ndash; سquot; لم يكن اكثر من تمنيات او آمال تتجاوز حجم الواقع بكثير.
ولأن الغريق يتعلق بحبال الهواء، كما يقال، فقد ادى تداول الحديث عن هذه المبادرة الى جعلها امرا قائما، وإن لم يكن في وسع احد ان يقدم لها شرحا او تفصيلا مفيدا.
ولعل اكبر دليل الآن على هذا هو التباين في التفسيرات او التبريرات التي اعطيت لاستقالة وزراء المعارضة وسقوط الحكومة. ففي حين اتهم العماد ميشال عون الرئيس سعد الحريري بافشال هذه المبادرة (!) تحدثت انباء عن اتهامات سورية لأميركا بانها تقف وراء افشالها. اما النائب وليد جنبلاط فأرخى مزيدا من الغموض على المشهد عندما تحدث عن quot;القوى الظلاميةquot; التي تقف وراء هذا الفشل!
وهكذا يبدو الامر محيرا تماما، وخصوصا اذا تذكرنا قول الرئيس بشار الاسد في خلال زيارته لباريس إنه ليست هناك مبادرة سورية ndash; سعودية وان الحل لبناني. ثم من خلال ما سمعه زملاؤنا في quot;M.B.C.quot; من الرئيس السوري قبل ايام، وقد اشار اليه داود الشريان تكرارا في quot;الحياةquot;، يمكن الاستنتاج فعلا انه لم يكن هناك ما يمكن ان يسمى مبادرة: quot;إن المسعى السوري ndash; السعودي كان تفاهما لرعاية الوضع على الساحة اللبنانية ولم يكن مبادرة جرى اسقاطهاquot;!
أهم من كل هذا، لم يتحدث الاسد الى وفد الـquot;M.B.C.quot; عن اي عمل او جهد هدفه الغاء دور المحكمة او التدخل في قراراتها، بل ركز حديثه على موضوع المعالجات المطلوبة بعد صدور القرار الاتهامي. quot;كان واضحا وعمليا في هذه المسألة، وعكس ما يشاع عن ان ثمة صفقة في موضوع المحكمةquot;!
كل حديث الاسد تركز على جهود سورية ndash; سعودية مشتركة لاحتواء اي تداعيات يمكن ان تحصل. وهي جهود تبقى في مستوى التنسيق لمعالجة اي تأزيم قد تشهده الساحة اللبنانية.

***
واذا كان اللبنانيون فعلا كما يقول الاسد quot;يتحدثون عن quot;س-سquot; من دون معرفة التفاصيل، وربما يضخمون التوقعات احيانا، وان هذه التفاصيل كثيرة ومتشعبة وهم يجهلونها تماماquot;، فإن ذلك يعني ان كل ما جرى في بيروت من استقالة اسقطت الحكومة لم يكن، كما قيل وتردد، نتيجة لافشال المبادرة السورية ndash; السعودية، ولا نتيجة التدخلات الاميركية والفرنسية التي لم تتوقف يوما عن تأكيد تمسكها بعمل المحكمة الدولية، بل كان نتيجة وصول السباق الى لحظته الاخيرة.
أي سباق وبأي معنى؟
كان الرهان لدى قوى المعارضة في لبنان على ان مسلسل الضغوط المتصاعدة على الرئيس سعد الحريري وقوى 14 آذار، سيدفعه الى النزول عند المطالب المعروفة والتي لم تعد تخفى على احد:
الغاء البروتوكول القائم بين لبنان والمحكمة الدولية، سحب القضاة اللبنانيين، اقفال مكاتب المحققين في بيروت، وقف التمويل، احالة ملف شهود الزور على المجلس العدلي.
وكان الرهان على ان الحريري سيكون عرضة لضغوط داخلية عطلت حكومته كما هو معروف، وخارجية منتظرة من السعودية تحديدا، بحيث يرضخ لهذه المطالب وتستقيم مقايضة الحكم بالمحكمة.
ولكن منذ انعقاد القمة الثلاثية في بيروت، بذلت جهود اقليمية ودولية كبيرة بهدف التأثير في مسار المحكمة الدولية لارجاء القرار الاتهامي اولا، ثم الغاء المحكمة في ما بعد، لكن تبين على اعلى المستويات ان هذا الامر لا يمكن ان يحصل لأن المحكمة ترتبط بسمعة مجلس الامن وهيبته، وقد انشئت تحت الفصل السابع، ولا شيء يمكن ان يوقفها سوى مجلس الامن، وحتى لبنان وquot;اولياء الدمquot; ليس في وسعهم وقفها.
عند هذا الحد، وبعدما توالت ترجيحات عدة حددت اوقاتا معينة لصدور القرار الاتهامي، بدا اخيرا ان مطلع السنة الجديدة سيكون على الارجح موعد صدور القرار الاتهامي. ولهذا، ومع تبين ان كل ما قيل عن المبادرات ينطوي على المبالغة الزائدة، نشأ ما يشبه السباق بين القرار الاتهامي، الذي صار على الابواب، والمعادلة التي طرحها quot;حزب اللهquot; والمعارضة، اي ان ما قبل القرار الاتهامي شيء وما بعده شيء آخر.
ولأن هذه المعادلة لم تدفع بالحريري الى التنكر للمحكمة، جاءت اقالة الحكومة عبر استقالة وزراء المعارضة، كي يصدر القرار الاتهامي عندما يصدر وليس في لبنان حكومة تتعامل مع المحكمة الدولية، التي يبدو انها حسبت حسابا مسبقا لمثل هذا الوضع عندما تحدثت عن امكان المضي في المحاكمات الغيابية لمتهمين يسميهم القرار الاتهامي.

***
الآن، بعد الاستقالة وتحديد موعد للاستشارات النيابية الملزمة، بات لبنان أمام ازمتين:
ازمة التكليف التي إن اعادت تكليف سعد الحريري فإنها ستضع المعارضة في موقف صعب، وإن حاولت تكليف غيره من الشخصيات السنية سيكون في موقف اصعب لاسباب سنّية تحديدا!
وازمة التأليف، التي ستواجه اي رئيس يتم تكليفه سواء كان الحريري او غيره، لان اي حكومة جديدة ستكون مدعوة الى التعامل مع المحكمة الدولية والقرار الاتهامي.
على هذا الاساس دخل لبنان نفق ازمة طويلة ومظلمة، ليس واضحا متى تنتهي وكيف، وهو ما يجعل البحث عن مبادرة للحل اجدى الآن من اي وقت مضى.