يوسف الكويليت

الوطنية ليست اختراعاً يزول باختراع آخر، هي تأسيس لكيان، وتجذير للإنسان، عبر قوانين التعايش والتكافؤ بالحقوق وفق دساتير وشرائع تجعل المواطنة نتاج تراكم تواريخ وأجيال، وحقاً طبيعياً لكل عضو فيه..

لبنان اُخترع بظروف دولية ليكون وطناً مزدهراً، وبالفعل كان لقدرة اللبنانيين على جذب جديد العالم في التجارة والتعليم والسياحة، والهجرات المتتالية لمختلف الدول، أسست للبنان نمطاً من عيش مختلف عن محيطه من حيث الحرية وتوطين المعارضين العرب، والعمل على خلق صحافة متطورة، لكنها مبيعة لكل مشترٍ..

هذا التوالي في الأحداث لم يجعل لبنان خارج العواصف، بما أنه حاول أن يلعب أدواراً أكبر منه، فجلب التجاذب قوى غربية لحمايته من صراعاته الداخلية وزوابع الأنظمة العربية، ولأنه بلا جيش ولاقوى أمنية غير مسيسة أو تابعة لحزب أو طائفة، بات التسلح والتمترس وفق نظام الحاميات، ما خلق فوضى سياسية، تبعتها حروب أهلية وشبه احتلال إسرائيلي، مع ذلك فالقوى التي تحاربت- حسب المفهوم التقليدي- laquo;لا غالب ولا مغلوبraquo;، وعلى أثر ذلك لم يتم تفكيك تلك الميليشيات، حتى برز حزب الله للساحة ليكون القوة العسكرية المنفردة، التي تأتي بالمعادلات لصالحها..

قتل الحريري لم يكن سياسياً لإسقاط حكومة تأتي بعد حكومة أخرى، وإنما رمزية القتل جاءت بسبب أن الرجل رئيس وحدة وطنية، وهذا ما لا يناسب التقاليد لهذا البلد الذي نهض من دمار الحرب بخطط ودعم الحريري إلى البناء، وعندما تم تدويل القضية لتصبح محاكمة قتلته خارج أطر المحاكم والقوانين المحلية، صار الخوف من تصويب الاتهام لأطراف مختلفة سبباً لانهيار الحكومة، بالرغم من محاولات إصلاح الخلل بمساعٍ عربية مختلفة، عجزت أن تلملم شظايا الإناء المكسور، ولا أدري إذا ما قررت الدول العربية الفاعلة في الداخل اللبناني، الانسحاب من العملية تلافياً للجهود غير الناجحة، وتركه لتفاعلاته الداخلية حتى لا تطالهم الاتهامات أو الإحراجات..

لبنان لم يعش منذ استقلاله من دون وجود خارجي في صلب شؤونه السياسية والداخلية، فمن كتف عربي، إلى عربي، إلى إيراني. كان يركض خلف سراب الحلول التي تُفصّل بمقاسات الطائفة المتحالفة مع تلك الجهات، وبضياع بوصلته، واستحداث أي سبب للانقسام- كالاعتراض على نتائج المحكمة الدولية التي لم تبرز من المتهم والبريء- جاء انسحاب الوزراء لتسقط الحكومة، ويسقط معها أي مسعى للمصالحة، ومن يفهم طبيعة الوضع اللبناني يدرك استحالة أن يرتفع مستوى المواطنة على بقية التشكيلات القائمة، ورغم نضج أعضاء الدولة والبرلمان وبقية الفاعلين بساحته، إلا أن الوضع تأسس على الخلاف بدلاً من التوافق، وهو مأزق لبناني، قبل أن يكون لأي طرف علاقة به..