أمجد ناصر

لا أعرف من الذي قال إن الناس في بلادنا كانوا ينتفضون من أجل الكرامة وليس الخبز. حسناً، لقد فقد الناس، منذ أمد طويل، الأمرين معاً، فلا كرامة ولا خبز.. ولا انتفاض. ولكن ليس إلى ما لا نهاية، ليس بعد اليوم. فهذه ملامح انتفاضة تتكون في الأفق العربي. بدأها شباب تونس وامتدت إلى الجزائر، وها هي تحط رحالها في الأردن.. ولم تمر بعد، للأسف، في المكان الأكثر حاجة الى الانتفاض: مصر. ولكن من يدري. فأرض مصر تحتضن كل بذور الانتفاض الذي إن حصل سيغير وجه المنطقة نهائيا، فلا تيأسوا من مصر. الدور قادم، والمصريون الذين أغرقوهم بالمسلسلات والمهرجانات والغناء الهابط وأعباء الحياة اليومية وفتتوا قواهم الحية وألهوهم بالشقاق الطائفي لن يتأخروا عن ركوب الموجة العالية.
***

يمكن التنبؤ بالأحوال الجوية، يمكن التنبؤ بأداء الأسواق والبورصات، يمكن التنبؤ بردود أفعال الأفراد، ولكن من الصعب التنبؤ بانتفاض الناس وثورتهم، فهذه عملية اجتماعية وسياسية تتكون ببطء وعلى نحو معقد وتختزن مفاعليها في داخلها، خصوصا، في ظل تدجين النظام العربي للناس طويلا وقهرهم، بل تركيعهم، بالخوف والقمع ولقمة الخبز. لكنَّ حجراً واحداً يرميه شاب متمرد في شارع عمومي قد يفجر غضباً مكبوتاً، قد يصنع ثورة، عود ثقاب قد يشعل هشيما متراكما. لم يكن هناك نظام عربي قادر على احصاء أنفاس الناس، التحكم في كل شاردة وواردة في السياسة والاعلام والنشاط العام لبلاده، مثل النظام التونسي، فماذا حدث؟ شاب يدعى محمد البوعزيزي أقدم على احراق نفسه بعدما اجتمعت عليه الآفتان: غياب الكرامة الآدمية واستحالة لقمة العيش. لم يجد البوعزيزي ما يملكه ليعبرعن احتجاجه سوى جسده فحوله الى عريضة احتجاج ملتهبة. جسده هو منبره في ظل افتقاد كل المنابر وانسداد آفاق التعبير عن وضعه ( ووضع معظم الشباب من أمثاله). كتب رسالته بالنار فامتدت النار من ذلك الجسد الشاب، المعزول، المقهور، المحتج على غياب الكرامة ولقمة الخبز إلى مدن وقرى ودساكر، كأن هشيماً، حطباً يابساً، كان بانتظارها، كأن هناك ظمأ لتلك النار المقدسة.
***

لقد بلغ السيل الزبى كما يقولون. بعبارة أخرى: طفح الكيل. لم يعد هناك مجال للمزيد من القهر والخوف. فعندما يصل الخوف الى ذروته، إلى أقصاه، لا يعود يخيف. عندها تتساوى الأشياء. فالمغلولون، الراسفون في القيود، لا يخسرون عندما ينتفضون سوى قيودهم. ها هم التوانسة يحطمون ذلك القيد الحديدي الذي غل أيديهم وأعناقهم. كسروا جدار الخوف الوهمي وانطلقوا الى الشوارع بكل شوقهم العارم الى الحرية والكرامة. فليس بالخبز وحده يحيا الانسان. ليس بالخبز الذي أذلوا الناس به، بل بالحرية. الانسان ابن الحرية ولا حياة له الا بها. لا تصدقوا ان تلك الشعوب النائمة ستظل نائمة طويلا، لا تصدقوا أنها تحيا إن لم تمتلك لسانها وقلبها.. يعني ان لم تمتلك حريتها. تدحرجي يا كرة الثلج التونسية الملتهبة، المباركة مشرقا ومغربا. فبغير ذلك لن يكون هناك أفق للشعوب العربية المغلوبة على أمرها من قبل طغم عائلية حاكمة، وليكن في مصير تشاوشيسكو تونس عبرة لمن يعتبر. عبرة لأولئك الذين مصوا دم شعوبهم، قهروها، أذلوها وأوردوها موارد الهلاك.
على كل الطغم العائلية الحاكمة في العالم العربي أن ترتعد فرقاً، فليست شعوبنا، مشرقا ومغربا، أقل شوقاً للحرية من الشعب التونسي وليست أقل منه قدرة على التضحية والوصول الى مقرات القهر والرعب والخوف وإجبارها على الاستسلام.
هذه مأثرة تونسية ستترك أثرا كبيرا في الشارع العربي. هذه سابقة لها ما يليها. هذه افتتاحية باهرة لعام لن يكون مثل الأعوام السابقة. وعلى الذين حاولوا استباق الرياح التونسية وقاموا بخفض الاسعار معتقدين أنها ستحول دون وصول الرياح الملتهبة اليهم، أن يروا المصير الذي آل إليه دكتاتور تونس. فالمسألة ليست في رفع الاسعار (على أهميتها) ولكن في حالة القهر وانعدام السيادة الوطنية واستباحة حرمات الناس ومعاملتهم معاملة البهائم التي تعرفها الشعوب العربية تحت سياط وفساد طغم عائلية حاكمة مؤبدة.
***

محمد البوعزيزي اسم بحجم التاريخ لأنه، ببساطة، صنع تاريخا، وأي تاريخ؟. لقد امتدت النار من جسده المعزول الى هشيم النظام التونسي، وربما هشيم انظمة عربية أخرى. فليبارك هذا الاسم. فليسجل اسمه بحروف من حرية. ليته يعرف ان جسده لم يذهب هباء. لم تنطفىء النار التي أتت على جسده المفرد بل امتدت واستعرت لتصنع لشعبه أفقا للحرية.
[email protected]