بصيرة الداود

الأحزاب والحركات الدينية في عالمنا العربي والإسلامي تتوهم كثيراً، فتشطح بأوهامها بسبب الغليان الديني، وعدم وجود أنظمة سياسية مثالية، فترى إمكان قيام خلافة إسلامية معاصرة، تحقّق من خلالها كل ما تصبو إليه أهدافها. لكن مثل هذه الأحزاب لا تعي أن حنينها الصافي للتاريخ الماضي والقوة المحركة له فقط هما في الواقع ما يدفعها كي تحاول أن تقيم خلافة إسلامية على نمط الخلافة الأموية أو العباسية، متناسية أن الأولى كانت خير مثال سياسي للنظام القبلي العربي في التاريخ، أما الخلافة العباسية فلم تكن مثالية أيضاً من الناحية السياسية كما يتصورها البعض، أو يقرأ في إيجابيات تاريخها من دون أن يبحث في سلبيات نظامها السياسي، الذي كان يتأرجح ما بين التيارات الأيديولوجية والمذهبية المسيطرة آنذاك من جهة المعتزلة أو السلفيين مثلاً، فلم تتمكّن الخلافة كنظام سياسي من خلق أيديولوجية سياسية خاصة بها كخلافة، ومحو بنية النظام السياسي القبلي العربي الذي ورثته عن الخلافة الأموية، لتكوّن لنفسها كياناً سياسياً جديداً تدخل فيه تميزاً رئيسياً لدور الدولة والمجتمع، لذلك كانت خلافتها أقرب ما تكون للدولة الكلاسيكية العاجزة عن تطويع مجتمعها وتحديد مجال حضارتها وثقافتها، على رغم إظهار قوتها في المجالات الأخرى، خصوصاً الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية.

اختلف المستشرقون في القرن التاسع عشر حول مبدأ ما إذا كان الإسلام هو من جعل الدين دنيوياً، أو أنه دخل في العالم كدين سياسي، وعلى رغم هذا الاختلاف، إلا أنه يعطي دلالة استثنائية على أن الإسلام هو دين عبادة إلهي حقيقي، أما مفهوم الخلافة الإسلامية، وإن كان حقيقة تاريخية تجسدت في دول ماضية، إلا أن استثناءه كحال لا يمكن أن يكون مستمراً، فسرعان ما تنهار دولة الخلافة مهما طال عمر سنواتها التاريخية، في حين يبقى الإسلام كدين متوسعاً على أنقاض كل دول الخلافة السياسية، حتى وإن حاول البعض محو خصوصية السياسة منه.

المجتمعات الأوروبية في تاريخ نهضتها قلبت عكساً مفهوم أولوية الدين ثم الحضارة والدولة، والذي لا يزال مفهومه قائماً كما هو لا يتغير في عالمنا العربي والإسلامي، فنهضت أوروبا وتقدمت بشكل سريع لا يمكن تداركه، مع تراجعها الواضح في مفاهيم القيم والأخلاق. أما عالمنا العربي المعاصر، فلا تزال أنظمته السياسية مهددة في تماسكها، كونها تعطي الأولوية للدين، وتعتمد عليه في كل شيء، فلم تجسده كما ينبغي في كيان سياسي تام، على رغم تحديد أهدافها الذاتية عالمياً.

إسلام اليوم متعدد الاتجاهات ليس شاملاً ولا متماسكاً، ومر تاريخياً خلال مسيرته الطويلة بمراحل عدة كان يقود فيها مجتمعات بمختلف ثقافاتها، فبدأ عربياً صرفاً ثم أصبح عربياً فارسياً، وانتقل ليكون تركياً فارسياً، ثم استمر منقسماً في ما بعد بين مساحات ثقافية قاسية تحددها مفاهيم وتعابير مزدوجة تذهب به إلى القمة أحياناً، ثم تعود به مرة أخرى نحو الانحدار ثم الانحطاط، وتحاول أن تنهض به عربياً أو غير عربي، حتى تصل به إلى مرحلة laquo;البدعraquo;، فتلبسه أفكاراً شاذة ليست في الإسلام الحقيقي، فيتوقف عندها ولا يصبح موضوعاً تاريخياً مكتملاً. لذلك نعجز كثيراً في هذه المرحلة المعاصرة عن أن نتحدث في الإسلام وعنه كمجال خالص، وإنما نتحدث عنه في مجالات قومية انغرست في الزمن بكل تراثه وثقافته النوعية من عربية إسلامية، أو فارسية إسلامية، أو تركية إسلامية، أو هندية إسلامية وغيرها، ما يعني انحراف الإسلام عن مركزيته وقاعدة انطلاقه الحقيقية، التي يكمن سببها المهم في رأيي عند محاولة قطع كل الشبكات الحية للمبادلات الإنسانية والثقافية عبر مرور الأزمان والحكم التاريخي عليه في بقائه معزولاً يحاور ماضيه فقط، الأمر الذي ترك المجال واسعاً أمام التاريخ كي يعمل عمله، فأدخل الإسلام كدين في طور الانحطاط الذي يسبق الموت، فأصبح إسلاماً لا يستذكر إلا حضارة ماضيه المطفأة، والتي لا يمكن معها خداع الذات، وإيهامها بإمكان استرجاع وهج الماضي كما كان، خصوصاً أن الوعي التاريخي لدينا لا يزال أسير أفق السياسة والثقافة المعاصرة، أما الوعي الإسلامي فصنع مستقبل تاريخنا القادم، من خلال إدخاله إلى مفهوم انحطاط الأمة، مشيرين بأصابع الاتهام نحو سيطرة الغرب البارزة أكثر وأكثر، ومجبرين على التفكير من جديد وكل وقت بالماضي وأمجاده.

من المؤكد أن ما لم يدركه كل من يحاول التفكير في قيام نظام خلافة إسلامي معاصر هو غياب الإجماع الديني منذ عهد الخلافات الإسلامية الماضية، حتى أضحى الإسلام عبر التاريخ عبارة عن أيديولوجية للشعوب، ثم أيديولوجية للنخب والأنظمة السياسية والفكرية، فانقسم مع انقسام العالم العربي والإسلامي فكرياً إلى قسمين يمثله علماء للدين مثقفون ثقافة تقليدية تعبر عن أفكار قد تكون قوية ومؤثرة لدى الكثيرين عاطفياً، لكنها أقل التصاقاً بالواقع المحيط بها وبمشاريعه المستقبلية، أما المثقفون التنويريون من مختلف التيارات الأخرى، فهم وبسبب مواقفهم العقائدية ومحاولة السلطات السياسية قمع أفكارهم دائماً، لكن تأثيرهم في الأجيال القادمة التي ستبني المستقبل أكبر بكثير من تأثير علماء الدين التقليديين، كما أصبح لهم تأثير فعلي في عالم السياسة ذاته، على رغم تظاهر السياسيين بعكس ما يخفونه!

إذا كانت الأحزاب والحركات الدينية تفكر اليوم في عودة الإسلام كنظام سياسي كما كان في ماضيه، فلتدرك أنها لن تتمكن من إقامة خلافة أموية أو عباسية جديدة، ولتبحث عن بديل يعيد لها اكتشاف قيم الإسلام والشعور بالتضامن الحقيقي، وتراجع ذاتها باستمرار، وتقف على المسؤولية الفكرية لتطلعاتها المستقبلية، حتى تتمكن من وصل ماضي تاريخها بمستقبله عبر حاضره، وبين المثال والواقع الاجتماعي المعبر عن حال الحضارة في المستقبل، والذي يؤكد على الدوام أن عالم اليوم أصبح صالحاً ومتسعاً للجميع.