رشيد بوطيب

لا يقدم لنا عبد الوهاب المؤدب في كتابه الأخير ' رهان الحضارة'، وكما هو شأن كتبه السابقة، تحليلا اجتماعيا لظاهرة العنف في الإسلام، بقدر ما يعمد إلى استعمال نصوص ضد أخرى وتراث ضد آخر، مؤكدا بأن الإسلام لا يختلف كثيرا عن الديانات السماوية الأخرى ـ اليهودية والمسيحية ـ وأن العقائد الوحدانية تتضمن بداخلها فعل عنف، كما ذهب وأوضح ذلك الباحث الألماني المعروف يان آسمان، لأنها تقوم على احتكار الحقيقة لذاتها ونفيها عن الآخرين.
يدعو عبد الوهاب المؤدب في كتابه الأخير إلى تحييد الآيات القرآنية التي تتضمن دعوة واضحة إلى استعمال العنف ضد أهل المعتقدات الأخرى، سواء باسم الله أو الجهاد أو الشريعة بصفة عامة، محتفيا بالمدرسة الصوفية داخل الإسلام، كما تمثلت في كتابات ابن عربي، الذي كان يقول بضرورة أن نجد الله في كل الأديان، حتى في الوثنية، في كل شكل وكل عقيدة.
دعوة المؤدب هذه، تستدعي لا غرو قراءة جديدة للنص الديني، تحرره من سلطة التقليد الرابضة على روحه، وفي هذا السياق تتوجب قراءة الآيات التي تحث على استعمال العنف في الإطار التاريخي الذي نزلت فيه، إذ هي برأيه آيات تخص مرحلة محددة دون غيرها ولا تملك صلاحية دائمة، وهنا يؤكد المؤدب ضرورة التفريق بين ما هو أبدي وما هو تاريخي أو نسبي في النص الديني، دون أن يحدد لنا كيفية تحقيق ذلك، لكنها فكرة يستقيها من المصلح السوداني محمد محمود طه الذي رأى في كتابه ' الرسالة الثانية للإسلام' الصادر سنة 1967 أن الأولوية في القرآن والإسلام للسور المكية، لأنها تخاطب البشر كافة، في حين أن السور المدنية تتوجه إلى ' أمة المؤمنين' في مرحلة تاريخية معينة، ولهذا لا يجب النظر إلى الشريعة كقانون فوق التاريخ.
يعود المؤدب مرة أخرى وكما رأينا ذلك في كتابه الشهير ' مرض الإسلام' لتوجيه سهام نقده للسياسة الدينية في أرجاء واسعة من العالم العربي، التي تؤبد في رأيه ممارسة أورثوذوكسية مغلقة، لكنه لا ينسى في المقام نفسه انتقاد السياسات الغربية التي استثمرت الكثير في الإسلام السياسي ودعم الحركات الأصولية من أجل مواجهة النفوذ السوفييتي والأنظمة الحليفة له.
لكن المؤدب لا يفرق على الرغم من ذلك كثيرا بين التيارين القومي والإسلامي، فكلاهما، إذا استعلمنا لغة محمد أركون في ' الفكر العربي': ' إيديولوجية كفاح'، رفضت كل ما له علاقة بالغرب وثقافته، بل وذهبت إلى اعتبار الديمقراطية نفسها حيلة للامبريالية العالمية من أجل تأبيد سيطرتها على المنطقة العربية.
فقد نهج التيار القومي سياسة توحيدية في المجالين السياسي والثقافي، رفضت التعدد ومعه حرية الثقافات والإثنيات الأخرى التي تعيش في المنطقة العربية، كالأمازيغ والأكراد والمسيحيين واليهود الخ.. إن الحضارة هبة التهجين والاختلاط، لكن خطاب الهوية السائد الذي يقوم على قراءة إقصائية للآخر وأحادية للأنا وتراثها الثقافي والديني، ينهج سياسة خالصة، تشكك بقيمة التعددية.
لقد بعث سلفيو اليوم الحياة في كتابات ابن تيمية الذي كفر الفلاسفة والمتصوفة، معتبرا هذه الاتجاهات دخيلة على الإسلام، لكنه تناسى في المقام ذاته أن الطب أيضا والعلوم الأخرى كالفلك والفيزياء والرياضيات، كلها علوم أخذها المسلمون عن غيرهم. هذا الموقف الفصامي هو ما يعيد السلفيون إنتاجه اليوم، وهم يقبلون في شره على استيراد آخر صيحات التقنية الغربية رافضين في الآن نفسه الانفتاح على الرؤية الغربية للإنسان والتاريخ والحياة.
إنهم يطلبون بذلك تأبيد سيطرتهم على المجتمع ومحاربة كل أشكال التجديد الفكرية، فهم يريدون ' أسلمة' الحداثة وبلغة أخرى إفراغها من مضمونها الحضاري الذي يتمثل في الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، ويطمحون في رأي المؤدب إلى تأسيس دولة إسلامية، على الرغم من أن الإسلام، يقول المؤدب استنادا إلى ما كتبه علي عبد الرازق في كتابه ' الإسلام وأصول الحكم' لم يعرف دولة، وأن نظام الخلافة نفسه لم يكن أكثر من تقليد لأنظمة الحكم التي عرفتها فارس وبيزنطة.
من الخطأ إذن في رأي علي عبد الرازق البحث عن شكل للحكم في التجربة النبوية، لأن النبي محمد كان قائدا روحيا والإسلام رسالة إلهية وليس نموذجا للحكم، ودين وليس دولة. وفي هذا السياق، وانسجاما مع كتاباته الأولى بصدد هذه القضية، يدافع المؤدب عن ذاتية بعد ـ إسلامية، مستعدة للتعلم من الغرب أو لـ ' التغرب' على حد تعبيره، لكنه في الوقت ذاته يكرر دعوة محد أركون إلى إعادة النظر بتجربة ' الأنوار' الغربية، وتعميم فوائدها على كل البشر. إن المسلمين أحوج ما يكونون اليوم إلى نقد ذاتي، وهو نقد لا سبيل لهم إليه، إذا تكلمنا بلغة المؤدب، إلا بانفتاحهم على الغرب وانسلاخهم عن تراثهم، وهي فكرة تتكرر في كتابات كل اليعاقبة العرب، الذين فهموا العلمانية كفكر معاد للدين، رافضين كل المحاولات التوفيقية التي طلبت المصالحة بين التراث والعصر، لكن المؤدب يقع في تناقض كبير وهو يدعو العرب إلى التغرب، لأن نقد الأنوار، يقتضي القبول بغيرية الآخر وثقافته وتجاوز فعل التبشير والمركزية الأوروبية، وحين نطالب العرب بالتغرب، فإننا نساهم في تفقير الحضارة الإنسانية ونجهز على تعددها.
إن العرب أحوج ما يكونون اليوم إلى ' النقد المزدوج'، وهو ما يعني الدخول في علاقة نقدية مع الأنا وتراثها أو تراثاتها من جهة وفضح نزعات السيطرة داخل الثقافة الغربية من جهة ثانية، أو امبريالة العقل وتجلياته اللاعقلانية في الأطراف.
إن الدعوة إلى ' التغرب' لا تختلف كثيرا عن الدعوة إلى الأسلمة، في حين أن كل نقد مزدوج يبغي التأسيس، في لغة الخطيبي، لفكر في لغات مختلفة، ويقتضي تجاوز مثل هذه الدعوات الإيديولوجية رغم بريقها المفهومي واستعاراتها الرنانة.