مأمون فندي

دولة العرب البوليسية بامتياز في تونس ماتت، وديمقراطية العرب التي نباهي بها الأمم في لبنان في طريقها إلى الفشل، أو فشلت، كل ذلك في يوم واحد، فما مصير ما بينهما من الدول، وهل يدعونا هذا إلى تفكير جديد عن عمر الدكتاتوريات وطريقة موتها، وعن مرض الدكتاتورية الكامن في قلب الديمقراطيات الزائفة؟ الإجابة السريعة هي نعم، لا بد من طلاق بائن بين طريقة تفكيرنا في السياسة والاقتصاد والاجتماع وطرقنا في تحليلها وقراءتها، وذلك قبل أن تضطرم النيران في الجسد السياسي العربي، كما اشتعلت في لحم الشاب التونسي محمد البوعزيزي في سيدي بوزيد، نار بدأت بلحم طري لشاب في مقتبل العمر، فأحرقت وطنا. رائحة شواء اللحم البشري لم تتوقف عند حدود تونس، إنها عدوى تنتشر في دول الجوار، بل تخطتها إلى لبنان وما حولها حتى الأردن. فهل لنا من تفكير جديد؟ كعرب لم يعد لدينا سوى دولتين كبيرتين، هما السعودية ومصر، ولكنهما دولتان يحيطهما حزام الفشل من كل جانب، فمصر محاطة بسودان يتمزق، وغزة الملتهبة، والبحر الأحمر الذي يعد، منذ بداية القرصنة في الصومال، كبحيرة فاشلة. أما المملكة فإلى جوارها يمن يتآكل، وصومال من الناحية الأخرى من البحر، وعراق أقرب إلى الفشل منه إلى البناء. فهل يدعونا هذا إلى تفكير جديد، بدلا من الارتكان إلى تفكير عقيم، ساد في منطقتنا، لا تفرق فيه بين آراء من يعلمون ومن لا يعلمون؟ قال زين العابدين بن علي: فهمت. ولكن فهمه جاء متأخرا، ومتأخرا جدا.

إذا ما نظرنا إلى حالة تونس، ندرك إلى أي حد نحن بعيدون عن فهم ما يعتمل تحت الرماد في أوطاننا، ولهذا أدعو إلى تفكير جديد. فمنذ سنوات تعودت منطقتنا، ساسة وحكاما ومحكومين، أن يروا الإسلام السياسي خلف كل مشكلة؛ فهو الخطر الذي يتربص بالجميع، وخيل للبعض أنهم متى ما قضوا عليه، كما قضت تونس على حركة النهضة، فهم في أمان وسلام واستقرار. انظروا إلى ما حدث في تونس؛ لم يكن هناك إسلام سياسي يحرك الجماهير، ولا laquo;إخوانraquo; ولا laquo;قاعدةraquo;، القصة بدأت بصفعة في سيدي بوزيد من قبل شرطية، لم تكن مجرد شرطية، بل كانت رمز القمع في أبشع صوره، صفعة شرطية على وجه الشاب التونسي محمد البوعزيزي، أدت به إلى أن يشعل النيران في نفسه وفي تونس، وليتها كانت صفعة لتونس فحسب، بل كان للصفعة مغزى أكبر ومعان أوسع، تدحرجت مثل كرة النار، لتأكل تونس، وتلهب النيران في أطراف ثوب الجزائر، وتصل عدواه إلى المغرب، والأردن، ولا ندري ماذا سيحدث في الدول التي تقع ما بين الأردن والمغرب. كانت صفعة الشرطية آخر علامات الإهانة والاحتقار لوطن لم يجد من يشكو له في ظل دكتاتورية مطلقة. والصفعة في تراثنا العربي وحتى في تفسيرات أحلامنا هي رمزية الاحتقار المطلق والإهانة التي لا تغتفر، ولما لم يجد الشاب من يشكو له، لم يجد أمامه سوى أن يشعل النار في جسده، لا يريد أن يؤذي أحدا، فقط أذى نفسه، ولم تقبل الروح الجمعية للمجتمع هذا العقاب القاسي أمام أعينها، فأحست بالذنب الجماعي، ومقابل إضرام النار في جسد خيرة شبابها، أضرمت النار في جسد السياسة وفي جسد البلد.

لم تخرج في تونس شعارات، ولم ترفع لافتات laquo;الإسلام هو الحلraquo;، رفع الشباب رغيف الخبز، وكانت معظم شعاراتهم تنشد الحرية بلغات مختلفة، كانت الشعارات تعكس مطالب صغيرة، ما إن تجمعت حتى كونت هذه الثورة، التي لم يؤطرها أحد، لا جماعة النهضة ومرشدها راشد الغنوشي، ولا الشيوعيون، ولا التقدميون، ولا القوميون العرب، المحرك الأساسي للثورة كان الطلبات الصغيرة والأفكار الصغيرة، التي يصنع منها نسيج الأوطان، وأتحدى أن يكون لناشط إسلامي واحد دور في إقصاء الرئيس التونسي زين العابدين بن علي من منصبه، من أقصاه هم الشباب العاطلون، وثورة الجياع والمظلومين.

في السياسة كما في الفيزياء هناك قوانين صارمة لا تحيد عنها الدول، وأحيانا هناك أيضا للسياسة والاقتصاد أمراض معروفة كالعلل التي تصيب البشر، مثل ما يعرف بـlaquo;الدتش سندرومraquo; الذي يصف علاقة الاستغلال الأقصى للموارد الطبيعية مع نقص الإنتاج؛ إذ تبدو الدولة غنية لكن اقتصادها مريض على المدى البعيد، وصكت مجلة laquo;الإيكونومستraquo; هذا المصطلح في عام 1977 عندما تناقصت قدرات القطاع الإنتاجي لهولندا بعد اكتشاف حقول الغاز عندها عام 1957. وصفعة البوعزيزي هي عرض لأمراض المنطقة، تلك الأمراض المزمنة التي يراها قصيرو النظر وكأنها مجرد سعال، رغم أن هذا السعال البسيط ينذر بفشل القلب ذاته في أداء وظائفه. عندما أضرم البوعزيزي النيران في نفسه، لم ير المحللون سوى صورة شاب فقير وعاطل عن العمل يحترق، لم يروا خلفه شعارات راديكالية من نوعية laquo;الإسلام هو الحلraquo;، لم يروا الإخوان المسلمين يحرضونه ويقفون من خلفه، وطالما ليس هناك إسلام سياسي، ولا laquo;إخوانraquo; أو laquo;قاعدةraquo;، فلا خطر هناك. هكذا ظن فقهاء القوم وحكماؤهم في تونس وما حولها، لم يروا أن النار توقد من مستصغر الشرر، لم يعرفوا أن الدكتاتوريات كالبشر، لها عمر افتراضي ولها أمراض عضال، بعدها تموت.

ما الخطأ الذي وقع فيه بن علي ودولته البوليسية كي نتعظ؟ الخطأ كان في موت السياسة، إذ حمل النظام كل وزنه على جناحه البوليسي الأمني، وأغلق نافذة الأفق السياسي، فالقبضة الحديدية والأمن يحلان كل المشكلات، هكذا ظنوا، ولم يدرسوا نظريات توزيع الأحمال، لم يوزع النظام ثقله على السياسي والاقتصادي والأمني، مال النظام على جنب واحد هو جانب الأمن، فانقلبت العربة بمن فيها. الأفق السياسي، لا الأمني، هو الحل. وهذا هو الدرس في لبنان، وفي تونس.

الخطأ الثاني هو أن النظام قد راهن على عمى الشعوب، أو في أحسن الأحوال رأى النظام هذه الشعوب على أنها شعوب عمشاء، لا ترى، ظن الجماعة في تونس أن الشعب لا يرى الفساد، ولا يرى نهب الثروات، وما إن جاءت اللحظة الحاسمة حتى تكشف لهم أن الشعب كان يرى وكانت له عينان، وله مخالب وأنياب أيضا.

الخطأ الثالث كان خطأ نسوة المدينة، فكما في سورة يوسف، كانت مؤسسة نسوة المدينة في الثلاث سنوات الأخيرة هي المتنفذة، وقامت سيدة قرطاج بما يشبه الانقلاب في الدولة التونسية الحديثة، ولما مالت كفة الحكم إلى مؤسسة نسوة المدينة على حساب رجالها، وسيطرت على قطاع الأعمال والمال، حتى مال النظام على جانبه الآخر، بعدما اتضح للجميع أن laquo;العزيزraquo; قد تخلى عن سلطاته للنسوة، هنا انقض الشعب على النظام في أول لحظة سانحة، حما الله الأوطان من مؤسسات نسوة المدينة البازغة التي أصبحت موضة في أوطاننا، أعراض مرض نسوة المدينة أخطر بكثير من الدتش سندروم، إنه نوع من الفشل الكلوي للأنظمة، لا ينفع معه حتى الغسيل المستمر.

ما وددت قوله في هذا المقال هو أنه يجب علينا أن نفكر مليا فيما توارثناه من فهم خاطئ لعلوم السياسة في مجتمعاتنا، فالدول تغيرت، والناس تغيرت، وتغيرت اللغة.