خالص جلبي

آفة الآفات في العالم العربي هي الوقوع في مطب المتناقضات، كما جاء في الإنجيل عمن وضع السمن في أزقة مخروقة، فلا السمن بقي، ولا وعاء الجلد استفيد منه.
وتطبيق هذا الكلام ـ ويجب أن نقوله بمسؤولية وحذر ـ إن المظاهرات في العالم العربي هي مناسبات للتدمير. فليس من روح مسؤولة ولم يعتد الناس التظاهر سلميا، بل بالحرق والضرب والقتل، ولذا فكل الأطراف تخاف من المظاهرات. ولم نعتد في العالم العربي على الروح السلامية في التظاهر والتعبير، وهنا مشكلة أخرى يجب شرحها. فالتعبير يقول عنه الكثيرون إنهم ممنوعون منه ومحاصرون ومراقبون ولكن لنقم بتجربة صغيرة لنكتشف الهامش والحرام. فلو كتب أحدنا أنه يريد أن يشرب وينام فلا أحد ينتبه لقوله وتمر الكلمة بسلام وأمان. ولكن لنرفع العيار ونقول إن أحدنا كتب عن الحب والسلام. والجواب ستمر الكلمة والمقالة بأمان الله. ولنزد أكثر فنقول لو أحدنا كتب بحرص وحب من أجل التغيير وبمسؤولية وبوزن للكلمات ففي قناعتي أن معظمها سيمر. وحتى الرقيب مع الوقت سوف يتعامل مع ألغام الكلمات بيسر وسهولة، وهو ما نقوله عن العنف ونريد ترشيد الجماهير عليه قبل التظاهر بالتعبير، فالكلمات تمارس الانتحار والموت الذاتي وتكتب على نفسها عدم الخروج كل ذلك بطبيعة العنف المرافق لها، وكذلك التظاهر والتجمع بصورة وأخرى..
لنر كيف يتظاهر الناس في باريس والدنمرك وفرانكفورت كما رأيت أنا عن مظاهرات شتوتجارت 21. الناس تمر وتحمل اللافتات وتعبر سلميا بدون قتل، بدون حرائق، بدون حجارة. بدون شتائم. إنها تقاليد تكونت ونحن لا نعرف التعبير إلا شتيمة والتظاهر وسيلة للجريمة.
أذكر جيدا من مدينة القامشلي عندنا حين قام الأكراد بالتظاهرات أنهم أحرقوا مراكز حكومية وفجروا ودمروا المرافق العامة، وبالمقابل فإن السلطات ضربت بالرصاص وأجابت على العنف بالعنف، وهكذا نرى أن فلسفة العنف هي السائدة المسيطرة، ولم تتشكل عندنا ثقافة التعبير السليم المسؤول المعترض ولا فن التظاهر السليم السلامي بدون تدمير المرافق العامة.
هل تعلمون أعجب ما رأيت في باريس. قبل أعوام حدثت مظاهرات للمغاربة في ضاحية باريس فلما ذهبت لرؤيتها أطلعني إدريس المهدي على صالة رياضية هائلة قد تكلفت الحكومة الفرنسية جدا في بنائها بالملايين من اليورو الحلو ترفيها عن المغاربة فكان مصيرها الدمار. لماذا؟ ثم صعدنا في البنايات وإذا بهؤلاء الشباب المتمردين المقرودين قد دمروا مصاعد البنايات التي يسكنون فيها. لماذا وهل هذا أسلوب للتعبير أم جنون وانتحار جماعي. ومن أعجب ما رأيت بقايا حجر (بلوك) فوق سيارة تخص سيارة عامل مسكين في البناية فخبطوا سيارته.
هل نفهم لماذا يوجد هذا الاستعصاء الأمني والخراسانات المسلحة والتوجس من كل طرف. إنها حالة احتقان اجتماعي يتفجر أحيانا، لذا وجب أخذ الدرس لتدارك الأمر ليس حين يقع، بقطع وعود لن تنفذ بإيجاد 300 ألف وظيفة في شهرين. بل قبل أن تقع وهي عادة وخلق قرأتها عند الألمان حين كنت اختص عندهم فكانوا يستبقون الأحداث قبل وقوعها..
وصدق المثل العربي درهم وقاية خير من قنطار علاج..
إن الثورة يا أعزائي تعيد توزيع الفقر ولا تأتي بالرفاهية قط بل بالدماء والدمار، وهي ما حذر منها أرسطو ولكن هل يفهم العقلاء هذا الدرس..
يبدو أننا نحن معشر البشر فينا عرق من الجنون غير مفهوم كما تحدث فرويد مرة عن التانتوس أي غريزة الموت مقابل الليبيدوس غريزة الحب..
اللهم اغرس فينا الحب والرحمة والتفاهم، وأبعد عنا فساد ذات البين فهي الحالقة.