علي الغفلي

تشعر أنظمة الحكم المستبد في العالم العربي بالانزعاج الشديد تجاه المصير الذي انتهى إليه نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، ولا تود هذه الأنظمة أن تقرأ في انتفاضة الشارع التونسي أكثر من مجرد مرحلة يتم من خلالها استبدال رئيس للدولة بآخر مع الإبقاء على منطق وآليات حكم الاستبداد من دون تغيير . ومن المؤكد أن أنظمة الحكم العربية مستغربة إزاء مسار واتجاه التطورات الضخمة التي قادها الشعب التونسي، وكانت تود لو أن هذا الشعب قد استمر صابراً على حكم ابن علي، خاصة أنه قد أبدى صبراً وتحملاً لفترة طويلة امتدت أكثر من عقدين من الزمن . إن هذا الانطباع المتعلق بمواقف غالبية نظم الحكم العربية تجاه الأحداث السياسية التي تعصف بتونس في هذه المرحلة ليس مجرد حدس، بل هو استنتاج يستند إلى الواقع الذي عبّر عنه الزعيم الليبي معمر القذافي صراحة، حين قال إنه متألم لسقوط نظام ابن علي، وأن التونسيين قد دفعوا تضحيات كبيرة من أجل استبدال رئيس بآخر، وأنه كان يتعين عليهم الانتظار إلى عام 2014 من أجل القيام بذلك .

ترتكب أنظمة الاستبداد العربية مجازفة حقيقية، جوهرها أنها تصنع أسباب فنائها، وتتمادى في تقويض كافة المبررات الواقعية لاستمرارها، ولكنها تفشل في الوقت ذاته في إدراك أن الانهيار المحتوم هو نهايتها المنطقية . إن الطمع في السلطة السياسية، والسطو عليها، ومن ثم الاستئثار بها وتعطيل تداولها بين القوى المشروعة في المجتمع، وحرمان عموم الشعب من المشاركة الحقيقية في صياغة السياسات التي تتعلق بشؤونه، وتحطيم مؤسسات المجتمع المدني، وإحداث حالة الانقسام بين المثقفين لتحويلهم إلى متسلقين أو مبتعدين أو منفيين، واصطناع العلاقات الاستراتيجية مع الدول الكبرى لاكتساب التواطؤ الدولي، هي أهم التقنيات التي تتبعها أنظمة الاستبداد السياسي في العالم العربي . ومن الواضح أن هذه الأنظمة لا تتهاون بشأن هذه التقنيات، بل تحرص على تطبيقها بكافة حذافيرها . ومع السلطة تأتي الثروة، وهذه بدورها محل طمع واستئثار الاستبداد السياسي، بل قد تكون محركاً أساسياً تجاه السعي نحو السلطة والاجتهاد في الاحتفاظ بها، فيقترف نظام الحكم خطيئة افتراس المال العام، وانتهاك حقوق الملكية الخاصة، لتثرى العناصر والرموز والأقارب ذات الصلة بنظام الحكم، وتنمو بذلك ثروات هؤلاء في الوقت الذي يرزح الشعب تحت أثقال الفقر والغلاء والبطالة .

يصل نظام الحكم المستبد إلى مرحلة يعتقد خلالها أنه قد ملك زمام الأمور، وأن الترتيبات المؤسسية والأمنية صارت وثيقة الربط والترابط بالشكل الذي يضمن استدامته، ويتجرأ على اقتراف ممارسات طغيان السلطة والثروة، غير مدرك أن الشعب يستمر محتفظاً على الدوام بالقدرة على التمييز والمقارنة والتساؤل، حين يشاهد المصالح الضيقة لنظام الحكم تتحقق بثمن باهظ لا يمكن احتماله، يتمثل في المفاسد العامة التي تتراكم في بلادهم، فتسحق حاضر الوطن والمواطن وتختطف مستقبل الدولة والشعب .

إن بقاء الفرد الواحد أو الحزب الواحد على سدة الحكم فترات ممتدة قد تصل إلى الثلاثين أو الخمسين أو السبعين عاماً لا يضمن على الإطلاق بقاء الحكم المستبد إلى ما لا نهاية، ولكنه ينذر فقط بأن عاقبة مثل هذه النظم وخيمة في معظم الأحيان . وتوضح التجربة التونسية الحالية، تماماً كما وضحت حالات أخرى في العديد من دول العالم، أن الفكرة القائمة على قدرة أنظمة الاستبداد على صياغة الأيديولوجية الاجتماعية وهندسة المجتمع السياسي والمؤسسات العامة بالشكل الذي يوثق بقاءها إلى الأبد محض خرافة . كما توضح تجربة تونس أن قدرة الحكم بالحديد والنار كوسيلة للقهر السياسي على تحطيم إرادة الشعب المتطلع نحو أفق الحياة الإنسانية الكريمة مجرد خرافة أخرى . وتدحض التجربة التونسية خرافة ثالثة، وهي جدوى الارتباطات الاستراتيجية الملفقة مع كل من واشنطن وتل أبيب في حماية أنظمة الجور السياسي ضد انتفاضة الشعوب العربية التي تكابد ويلات استبداد السلطة ونهب الثروة التي تفرضها عليها ممارسات الطغيان السياسي . لا شيء يحطم إرادة الشعب، ولا يمكن لأي عوائق داخلية أو خارجية أن تقف أمامها، ولا تمتلك أنظمة الطغيان التي تسطو على السلطة والثروة أدنى فرصة في الصمود أمام غضبة الشعوب التي تكابد الكبت والحرمان .

إن بإمكان الأنظمة السياسية العربية أن تصنع الاستنتاجات التي ترغب فيها من خلال متابعة وتحليل الحالة التونسية، وربما لم تكتمل فصول هذه الحالة بصورة تامة بعد بالشكل الذي يسمح بالتوصل إلى كافة الاستنتاجات الممكنة في خصوص عواقب الطغيان والاستبداد . بيد أن اعتبارات الرشد السياسي تقتضي أن تعي الدول العربية أن نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي لم يكن أضعف أنظمة الاستبداد العربية حين يتعلق الأمر بالسيطرة على إرادة الشعب وسلب حقوقه، وأن الشعب التونسي ليس بالضرورة أقوى الشعوب العربية حين يتعلق الأمر بإدراك عمق المعاناة والقدرة عن قلب الطاولة على النظام الحاكم . لقد مارست الشعوب العربية أقصى درجات ضبط النفس وبشكل يفوق قدرة الشعوب الأخرى على الاحتمال، ولكنها ليست شعوباً ضعيفة على الإطلاق، ويبدو أنها صارت تدرك حقوقها السياسية والاقتصادية، وربما لن يفوتها أن تستوعب الدروس من تونس إن لم تبادر الحكومات العربية إلى القيام بذلك بأسرع وقت .