سمير عطا الله


كان من عادة نابليون أن يأخذ معه في حملاته بعض كبار كتاب فرنسا. في السادس من سبتمبر (أيلول) 1812 وصل نابليون على رأس حملته إلى مشارف موسكو، ومعه شاتوبريان، الذي كتب عن تلك اللحظة الآتي: laquo;بدا نابليون على ظهر حصانه، يحيط به حرس المقدمة. كانت هناك تلة واحدة لا بد من عبورها للوصول إلى موسكو، كما هي تلة مونمارتر بالنسبة إلى باريس، وتسمى تلة الشكر، حيث كان الروس يصلون لمرأى موسكو كما يصلي المسيحيون لمرأى القدس. ها هي موسكو ذات القباب الذهبية تلمع تحت أشعة الشمس. ألف وخمسمائة قصر. وبيوت منحوتة من الخشب ملونة بالأخضر والأصفر والزهري. وقباب الكرملين مغطاة بالنحاس اللماع. وبين الفيلات الرائعة المبنية بالحجر الأحمر يتدفق نهر موسكو تحيط به الحدائق وأشجار الصنوبر. إن مدينة البندقية في عز مجدها لم تكن أكثر أبهة. وقد راح جنودنا يهتفون: (موسكو. موسكو). ثم أخذوا يصفقونraquo;.

كان نابليون يريد أن يضع يده على laquo;ثالث روماraquo; في الأرض: الأولى كانت روما نفسها، والثانية القسطنطينية (اسطنبول)، وهذه هي الثالثة. وكان أحد حكماء القرن السادس عشر في موسكو قد كتب إلى الأمير فاسيلي الثاني: laquo;لقد سقطت رومتان وموسكو هي الثالثة ولن تكون هناك روما رابعة. موسكو هي نهاية التاريخraquo;.

يكتب الصحافي البولندي ريتشارد كابوشنسكي، أنه في اليوم التالي لوصول نابليون، أقدم الروس على إحراق مدينتهم. ظنوا أن تلك الوسيلة الوحيدة لإرغامهم على العودة من حيث أتوا، فأشعلوا الحرائق في laquo;روما الأخيرةraquo;. وكان الروائي الروسي الكبير تورغنيف كتب أن laquo;مدن روسيا تحرق خمس سنواتraquo;! ذلك أن بيوتا مبنية من الخشب والغابات تملأ المكان! ولكن مئات الألوف من الروس ماتوا حرقا، الفوج بعد الآخر. ولم يبق سوى المنازل المصنوعة من الطوب الأحمر، وهي نادرة جدا. وهذه دمرها الشيوعيون، هي والكنائس، لكي لا يبقى من موسكو القديمة شيء. لم يرد ستالين أن يكون قبله أي تاريخ. ومثل جميع ديكتاتوريي العالم - يقول كابوشنسكي - لا نهاية لحكمته ومعرفته. إنه خبير في التاريخ والاقتصاد والشعر واللغات، بل وأيضا في الهندسة. وقد كان هو من وضع، عام 1933، خريطة بناء موسكو الجديدة. وطفقت الكاسحات تمحو أحياء كاملة من سكانها. وطرد عشرات الألوف من السكان من laquo;شققهم البورجوازيةraquo;، إلى الخيام وأحياء الصفيح. واختفت موسكو القديمة عن سطح الأرض لتحل مكانها مدينة laquo;تعبر عن قوة السوفيات وتقدمهمraquo;. عندما ذهبت إلى موسكو كان مألوفا أن تنصح بزيارة شارع مكسيم غوركي الذي يزدحم بناطحات السحاب. وكانت أعلى واحدة فيها لا تزيد - إذا لم تخني الذاكرة - على 12 طابقا. ولذا أشاع الموسكوبيون نكتة تقول إن سائحا أميركيا جاء يجول في المدينة، فلما وصل إلى شارع مكسيم غوركي، قال: laquo;إنها حقا بدايات حسنة. متى تعتقدون أن هذه المباني سوف تكتمل؟raquo;.