سيد أحمد الخضر

معظم الأقاليم التي ناضلت من أجل الاستقلال تكللت جهودها بالنجاح في آخر المطاف ففرضت منطقها على الحكومات المركزية. حصل هذا في جميع أرجاء المعمورة، في إفريقيا وفي أوروبا وحتى الدول التي تملك الكثير من مقومات الوحدة لم تستطع أن تحول بين الناس وبين ما يشتهون من انفصال. وتجد هذه الإرادة السند في المواثيق الدولية التي تعترف بحق الشعوب في النضال من أجل الاستقلال، وقدرة الحركات الثورية على إذكاء الروح القومية لدى أبناء الأقاليم الطامحة للتحرر كون الانفصال هو السبيل الوحيد لبعث هويتها المطموسة واستغلال ثوراتها.
ولعل أهم ما يذكي نزعة الانفصال هو رفض الاعتراف بالتنوع الذي تمارسه الدول العربية عموما ما يجعله مطلبا ملحا يهون في سبيله الدم ويدفع المعنيين للبحث عن أنصار للقضية من خارج المنطقة التي تعاهد أهلها قديما على عدم التدخل في الشؤون الداخلية والاكتفاء ببحث العلاقات الثنائية والقضايا ذات الاهتمام المشترك.
ورغم أن قادة المنطقة العربية لا يساومون في الانفصال ويعتبرون الترخيص للأقليات بإذاعة أو نشرة في التلفزيون مطلبا موغلا في التطرف، فإن درس الجنوب السوداني سيعيد الكفاح من أجل الاستقلال إلى الواجهة ويضع حدا لانتصار العرب على سنن التاريخ.
عندما نعود للقضية السودانية نجد أنها بدأت بإرادة الانفصال فكان الاستقلال عن الشمال هو عمق القضية الجنوبية وأساس مشروعية الحركة الشعبية.. لقد خاضت الخرطوم حربا ضروسا ضد طموحات الجنوبيين واستطاعت الحصول على دعم بعض الدول العربية وكافة التيارات القومية والإسلامية في المنطقة.. لكن الحرب التي شلت التنمية وحصدت الآلاف فشلت في قتل نزعة الانفصال واضطرت الحكومة السودانية للبحث عن حل يُبقي الجنوب بعيدا عن الحرب فتفتقت الذهنية الشمالية عن إشراك الجنوبيين في السلطة وتأليف قلوبهم بالمال ثم فشل هذا أيضا لأن الحركة الشعبية عقدت العزم على طلاق الشمال.. هذه إرادة الانفصال لا تقتل ولا تشترى ولا ترتبط بأشخاص معينين أيضا، لذلك لم يؤثر رحيل جون قرنق في المشهد فحلّت البركة في سلفاكير الذي يعكف حاليا على عزف نشيد يخص الجنوب.
ومع بعد الشقة بين البلدين فإن الحالة المغربية نسخة طبق الأصل من الحالة في السودان فقد قابل النظام هناك انفصال ما يسميه بالأقاليم الجنوبية بحرب شعواء قتل فيها الكثير من المغربيين والصحراويين، وحكمت على الاتحاد المغاربي بالخسران المبين، وبعد فشل الخيار الحربي في حسم مشكلة الصحراء لصالح المغرب عمد الأخير إلى محاباة laquo;الجنوبيينraquo; وإغداق المال على قياداتهم المنشقة وإعطاء امتيازات للذين يقيمون منهم في المدن المغربية، ثم خاب ظن المغرب ثانية لأن الصحراويين مصممون على الاستقلال، ولعل الدولة الصحراوية تملك من مقومات الوجود ما لا يملكه جنوب السودان بحكم تقبّلها من الشعوب المغاربية وقدرتها على نسج علاقات طبيعية مع دول المنطقة، وهذا ما يجعل القيادات الصحراوية تصر على حق تقرير المصير الذي سيسفر حتما عن رفع علم جديد في ما يسميه المغرب جنوبا.
ولن يتوقف نزيف الجنوب، حيث تبدو عدن قاب قوسين أو أدنى من الاستقلال عن باقي اليمن ويُجمع الجنوبيون هناك على هذا الخيار لأنهم ذاقوا حلاوة الانفصال قبل ما يطلقون عليه مرارة الوحدة.. وفي موريتانيا البعيدة عن دائرة الضوء يدعو سكان الجنوب من الزنوج إلى الفيدرالية ويفكرون أيضا في قطع الروابط مع العرب. ورغم أن حكومات نواكشوط حاربتهم قديما بالسلاح وألفتهم حديثا بالحقائب الوزارية والمقاعد البرلمانية فإن مطالب الانفصال لم تغب يوما.
تلك أحلام الشعوب لا تقتلها الحروب ولا تشترى بالمناصب والمال، وقد جاء انفصال الجنوب السوداني ليسرع من وتيرة استقلال هذه الأقاليم. وأعتقد أنه من صالح الدول العربية أن تتخلى عن منطق المكابرة حتى لا نهدر مزيدا من الوقت والمال فكل جنوب منفصل.