جهاد الخازن


أقف أمام laquo;البركةraquo; في أسواق بيروت، وأتذكر السيدة سلمى مروة، رحمها الله. كيف؟ لماذا؟

كانت الست سلمى، كما كنا نسميها، تصعد مساء الإثنين 16/5/1966 أدراج laquo;الحياةraquo; بعد اغتيال زوجها كامل مروة، ناشر laquo;الحياةraquo; في حينه ورئيس تحريرها، ورأت laquo;الخالraquo; (خال كامل مروة) جالساً على الدرج يبكي. انتهرته قائلة: laquo;قوم، إحنا ما عندنا رجال تبكيraquo;.

الست سلمى رحلت عنا. ارتاحت، ولا عين تشوف ولا قلب يحزن. وأنا أمام البركة أقاوم البكاء في شارع شبه خال. لم يبق رجال. لم يبق غير البكاء.

شكراً 14 آذار. شكراً 8 آذار. شكراً التقدمي الاشتراكي. شكراً القومي السوري. شكراً الكتائب والقوات. شكراً لكم جميعاً. لم تتركوا لنا سوى البكاء. على الأقل لست وحدي في لبنان، دائماً الى جانبي الخوف رفيقاً، خوف من يومي، خوف من غدي.

متى وقفت أمام laquo;البركةraquo; أول مرة؟ هل كنت دون المراهقة وأمي تمسك بيدي؟ متى وقفت آخر مرة؟ في أواسط السبعينات قبل أن أترك لبنان من دون أن أودعه؟ اجازة أسبوع في لندن أعود بعدها، ومضى العمر وأنا أعود ولا أعود.

إذا كانت هذه هي laquo;البركةraquo; أين الناس؟ أين الجلاّب؟ أين نبض الحياة حولها؟ كيف تكون laquo;بركةraquo; وسوق الطويلة، ولا مكاتب لـ laquo;النهارraquo;؟ كم صعدت تلك الدرجات الى الطابق الأول. كم مشيت الى laquo;العجميraquo; في نهاية الطريق. أمامي مبنى laquo;الأوريانraquo; الذي أصبح بعد ذلك laquo;الأوريان لوجورraquo;، بقية من بناء خلت منه روحه.

قبل دقائق كنت في مبنى laquo;الحياةraquo; قرب ساحة النجمة (الساعة)، مع الزميل غسّان شربل، رئيس التحرير، في مكتبه ومعنا الوزير يوسف سعادة والأخ سليمان فرنجية، مسؤول الإعلام في المردة، وبعض الزملاء. كان الحديث راقياً مهذباً، لا إساءة لأحد أو استغابة. حاولنا أن نتبادل المعلومات والأفكار، أن نتلمس طريق المستقبل.

تركت المبنى وأنا أفكر لماذا اللبنانيون طيبون كأفراد سيئون كمجموع. لا جواب عندي. الأذان يرتفع وأنا أمام الجامع العمري الكبير. الجامع لا يزال كبيراً ولكن الناس صغرت. لا الأذان أذان ولا الآذان آذان (مع الاعتذار من أحمد شوقي). عندنا 17 طائفة والكل يعبد الله ويكفر بلبنان. أزمة جديدة. هل هي الأزمة السابقة مستمرة؟ هل هي أزمة واحدة منذ الاستقلال وحتى تقوم الساعة أو ساعة البلد وأهله؟

عبرت الشارع أمام الجامع، وقد غاب الترامواي الذي كنت أستقلّه في الذهاب الى المدرسة، وانتهيت أمام laquo;البركةraquo;.

متى أعود مقيماً لا زائراً؟ كنت أريد أن أعود الى الوطن لأعيش فيه. اليوم بت أخشى أن أحرم فرصة أن أعود لأموت فيه. سبقني الذي قال: laquo;إذا مت في الغربة بْطُقْraquo;. كلام لبناني ترجمته انه يموت قهراً، يموت مرتين.

كنت أخذت معي من لبنان زملاء للعمل في الجرائد التي رأست تحريرها في الخارج. بعضهم مات في لندن ودفن فيها أو حولها. الله يرحمك يا محمود كحيل، زميل الجامعة و laquo;الديلي ستارraquo; و laquo;الشرق الأوسطraquo;.

غالبت الدمع يا ست سلمى. laquo;ما عندنا رجال تبكيraquo;. هاتفت ابني في لندن. لقبه laquo;أبو عربraquo;. قلت له إنني يائس مُحبط وأريد كلمات ترفع الغمّة عن قلبي.

لم يكن أول اتصال من نوعه، والابن يعرف ما أقول ويفهم كلامي، فكم مرة اتصلت به من بيروت، وقد بحثت عن ذكرياتي فيها ولم أجدها.

رد غاضباً: بابا إنسَ الموضوع.

أنتَ تحب أرتيست لها كل يوم حبيب آخر. أنت تفكر كعاشق وقلبك يغلب عقلك. البلد الذي تعرفه راح ولن يعود. ربما لم يكن موجوداً.

أودعه وأمشي حول laquo;البركةraquo; وأفكر. استيقظْ يا رجل. هل لبنان الذي اختزنته ذاكرتي لم يوجد. هل رسمت على امتداد 35 سنة في الغربة أوهام بلد؟ متى أفيق. بعد يومين أنا في لندن لأنسج الوهم من جديد.

تركت الأسواق وخرجت الى الشارع، ومطر خفيف يسقط على رأسي ووجهي. السماء بكت معي.