جاسوانت سينغ

إن باكستان تمر الآن بنقطة تحول كبرى، فهل تكتب لها النجاة من الاضطرابات الهائلة التي تفرضها التحديات الحالية- والتي تجسدت في اغتيال سلمان تاثير حاكم ولاية البنجاب أخيرا بواسطة أحد حراسه الشخصيين، وهو أحد الإسلاميين المتعصبين- أم أن الأمور قد تنقلب رأساً على عقب؟ إن مصير باكستان يشكل بالنسبة للعالم قضية ملحة، بل لعلها قضية وجودية؛ ذلك أن باكستان تشكل قوة إقليمية مسلحة نووياً ومولدة للإرهاب.

والواقع أن جذور عدم الاستقرار في باكستان عميقة، فبعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، جلست القوى العظمى والولايات المتحدة حول الطاولات الضخمة لتلفيق الحدود، فتمخض ذلك التلفيق عن مولد بلدان مثل العراق، وإسرائيل، والأردن، وبالتالي نشوء أغلب العلل والشرور التي تعانيها منطقة الشرق الأوسط حاليا. وكانت الخريطة الجديدة للمنطقة مبنية على افتراض مفاده أن الأسس الجوهرية التي تقوم عليها laquo;آسيا المسلمةraquo; من الممكن تحويلها من خلال تقديم نظام الدولة الأمة الغربية. بيد أن هذه الجهود أسفرت بدلاً من ذلك عن تشكيل منطقة مأهولة بكيانات فشلت إلى حد كبير في التماسك والالتحام كأمم.

وفي عام 1947 تم تشريح شبه القارة الهندية على نفس النحو تقريبا، مع اقتطاع جزء منها على أساس ديني: فنشأت دولة باكستان. وليس من المجدي بطبيعة الحال أن نعيد فحص ومراجعة هذه الحماقة المأساوية الآن، ولكن العواقب التي ترتبت على التقسيم تظل باقية: فباكستان لم تتمكن حتى الآن من تطوير حكومة ذات مصداقية على المستوى الإداري. ولو كان محمد علي جناح، الأب المؤسس لباكستان، على صواب حين قال إن المسلمين هم أمة مستقلة، فما كانت بنغلاديش لتنفصل عن تلك الأمة، وكانت علاقات البلاد بجارتها أفغانستان لتصبح خالية من المؤامرات والعنف.

ويقودنا هذا إلى جوهر الأمر: مسألة الإسلام والدولة. في كتابه laquo;الإسلام ومصير الإنسانraquo; يطرح جاي إيتون هذه المسألة بدقة وأناقة فيقول: laquo;إن المجتمع الإسلامي يدور حول حكم الرب وليس حكم رجال الدينraquo;. وهو تمييز مهم، لأنه يشكك في صحة مفهوم laquo;الدولة الإسلاميةraquo; في مقابل laquo;الدولة المسلمةraquo;. فيقول إيتون إن الأولى عبارة عن laquo;اقتراح إيديولوجي لم يتحقق على الإطلاق في تاريخ الإسلام، حيث لم تنشأ أي دولة مسلمة يحكمها رجال الدينraquo;.

وفي حين أن مركزية الدولة في الشؤون الإنسانية تُعَد تطوراً أوروبياً حديثاً فإن المجتمعات التقليدية، مثل الهند أو باكستان، كانت تنظر إلى الدولة دوماً بوصفها شراً لابد منه، لأن المجتمعات الكبيرة من غير الممكن أن تُدار على الأساس القَبَلي القديم. وبالنسبة للمسلمين فإن السيادة جميعها للرب؛ ولا شيء على الإطلاق موجود أو من الممكن أن يوجد خارج إرادته. وطبقاً لتعبير إيتون فإن تأكيد القرآن على عدم وجود إله إلا الله من الممكن أن يفسر أيضاً بحيث يعني عدم وجود أي مشرع غير الله. ولهذا السبب فإن القوانين في الفقه الإسلامي لابد أن تكون مستمدة من القرآن والسنة النبوية، وليس من فلسفة بريطانية أو كلاسيكية.

وعلى هذا فإن القضية المركزية في الإسلام ليست ما إذا كان من الممكن فصل الدولة عن الدين، بل ما إذا كان من الممكن فصل المجتمع عن الدين. وهو أمر غير ممكن، ولهذا السبب لن نجد دولة مسلمة علمانية بالكامل، والواقع أن القضية الكامنة الآن في قبل باكستان تتلخص فيما إذا كان من الممكن أن تتحول إلى دولة دينية.

وهو ما يعيدنا إلى هول عملية اغتيال تاثير، ورد الفعل الغريب والمنقسم إزاء هذه العملية في المجتمع المدني الباكستاني. إن اغتيال تاثير، خلافاً لاغتيال رئيس الوزراء الهندية أنديرا غاندي بواسطة حراسها الشخصيين في عام 1984، لم يكن هجوماً انتقاميا، بل إن جذور اغتيال تاثير ضاربة بعمق في الأوهام والضلالات المظلمة للمعتقدات المتعصبة، حيث يفترض أن قتل تاثير كان لحماية العقيدة.

والأسوأ من ذلك أن العديد من المواطنين، إن لم يكن أغلبهم، استجابوا لعملية الاغتيال هذه بمناصرة منفذها (بل إن البعض أمطروه بالورود)، في حين رحب المئات من العلماء (الزعماء الدينيين) بمقتله وزعموا أن المشاركة في تشييع جنازته laquo;مخالف للإسلامraquo;. وعلى حد تعبير زعيم حركة الجماعة الإسلامية laquo;فإن القتيل مسؤول عن مقتلهraquo;.

إن هذا المسار الأصولي العدواني من شأنه أن يعيد باكستان إلى الوراء قروناً من الزمان. لا شك أن باكستان وحدها هي المسؤولة عن المسار الذي تختاره، ولكنها ما كانت لتتبنى مسارها الحالي لولا الدعم الضمني (والصريح) الذي منحتها الولايات المتحدة إياه، بداية من ثمانينيات القرن العشرين، بهدف التصدي للاحتلال السوفياتي لأفغانستان. ومرة أخرى، نرى كيف قد تؤدي الأولويات الوطنية الغربية المغلوطة إلى جلب الخراب على دولة غير غربية.

في أي تنافس بين الأفكار، فإن الأفكار المتطرفة تنتصر عادة على الأفكار المعتدلة. وفي باكستان يرتدي المتطرفون اليوم الزي الإسلامي، ويزعمون نصرتهم للخالق والعقيدة والنظام الديني. ولكن ما الذي قد يناصره الباكستاني الليبرالي في المقابل؟ وهل في باكستان اليوم من يدعو إلى إقامة دولة ليبرالية ديمقراطية؟

في أزقة لاهور أو كراتشي أو بيشاور أو كويتا المظلمة المكتظة، لن نجد توقاً إلى الليبرالية الديمقراطية، بل لن نجد إلا كل من يدعو المؤمنين إلى التوحد خلف عقيدة واحدة صحيحة. وهنا، ومن منطلق هذه الرغبة، تجري الحسابات النهائية، وليس في أروقة واشنطن، وبكل تأكيد ليس في الشوارع الفسيحة الواسعة في إسلام أباد.

* شغل في الهند سابقاً مناصب وزير المالية، ووزير الخارجية، ووزير الدفاع. وهو مؤلف كتاب laquo;جناح: الهند ـ التقسيم ـ الاستقلالraquo;.

laquo;بروجيكت سنديكيتraquo; بالاتفاق مع laquo;الجريدةraquo;