عاكف الزعبي

ما حدث في الشقيقة تونس كشف الغطاء عن السوق الحرة واقتصادها عندما تستخدم كشعار فقط للوصول من خلاله إلى الاقتصاد المنفلت من أي عقال. لم تكن تونس وحدها التي عاشت تجربتها على هذا النحو، فغيرها العديد من الدول النامية التي ذهبت مذهباً مماثلاً. وشهد العالم أمثلة في دول كثيرة تركت أسواقها دونما آليات تنظم أعمالها وغيّبت الحكومات دورها الإشرافي والرقابي، ما أتاح لبعض القوى التغول على حقوق المجتمعات والاستحواذ على مغانم التنمية.

السوق الحرة واقتصادها لا يعنيان إلغاء دور الحكومة في الإشراف والتنظيم والرقابة. الحكومات في معاقل السوق الحرة تنظم السوق وفق آليات تحددها القوانين، وتكافح الاحتكار لترسيخ المنافسة وصيانة حرية السوق، ولا تدع قطاعات حيوية مثل التعليم والصحة في منأى عن رعايتها المباشرة. وأهم من ذلك أنها تحمي حرية السوق ومصالح المجتمع بنظام سياسي ديمقراطي يؤطر حركة الدولة والمجتمع ويقيهما شرور الانحراف نحو الفساد.

حال تونس وما آلت إليه، يفسره فساد النظام الاقتصادي في ظل انفلات السوق، وتلاشي الأفق السياسي بتأثير من غياب المشاركة الشعبية وانغلاق قنوات الحوار، ما أوصل الاحتقان المجتمعي إلى ذروته شاقاً طريقه إلى التمرد والعصيان، وأذن للشارع ليقود التغيير فيما يشبه الثورة بكامل أوزارها من تبعات وتداعيات وأعباء معاناة البدء بإعادة البناء من خطوته الأولى.

كان لتونس عبر ثلاث وعشرين سنة أكثر من خيار أفضل من هذا الذي أُجبرت عليه وأقل كلفة، وكان لديها أكثر من نقطة أقرب لها وأقصر عليها لكي تبدأ منها التغيير الذي تحلم به. لكن الطرق سُدّت من أمامها، وصودرت أحلامها بالإصلاح، وحوصرت خياراتها السلمية حتى لم يتبق لها من بينها غير خيار الثورة الشعبية بطريقها الطويلة والشاقة، وأشواكها الكثيرة القاسية.

ما تحمّله الشعب التونسي الشقيق في عقدين ويزيد، وما انتهى إليه من خروج إلى الشارع مخاطراً بحياته، لا يمثل للأسف آخر الخسارات وأشدها عبر مسيرته، ولا يعدو كونه الجزء غير الباهظ منها، فلربما الجزء الباهظ منها قد بدأ خطواته للتو، وأولاها لملمة الجراح الاقتصادية والاجتماعية التي حلت بالبلاد، واستعادة السلم الاجتماعي والاستمرار وصولاً لإنجاز إعادة صياغة النظام السياسي المتعافي بعد كل هذا الاعتلال.
من جديد على تونس البدء في تجربة إعادة البناء بعد سنوات طويلة ذهبت من حياتها سدى لتضيع معها جهود وموارد وآمال. سوف تبدأ من نقطة ما بعد الاستقلال، وتحمل مسؤوليات إعادة بناء هياكل الدولة الديمقراطية العصرية، ودفع ما يستتبع ذلك من أثمان. ولعل هذا بالتحديد هو أسوأ ما ورثته تونس من العهد الماضي. لأنها سوف تقوم بالنهوض تحت إرث ثقيل من حياة سياسية وحزبية شديدة التهميش، ما قد يجعلها تنوء بالحمل في مواجهة صعاب وأحمال كان يمكن أن تكون أخف وطأة.

ليكن الله في عون المعارضة وكل القوى التي سوف تتصدى لبناء مستقبل تونس بعد ثورة شعبها. عليها في آن معاً أن ترصّ الصفوف وتتسامى على الجراح، وتؤثر مصالح البلاد العليا على مصالحها الحزبية والفئوية، وتتجاوز الخلافات فيما بينها لتحقيق التوافق الوطني المطلوب برغم عوامل الضعف والاعتلال التي ورثتها. فأي تقصير سوف يترك البلاد عرضة لاختطاف إرادة شعبها وتضحياته من جديد.