سليمان تقي الدين

بلغ النظام الطائفي ذروته في الانتخابات النيابية العام ،2005 فأنتج أربع كتل طائفية تحتكر التمثيل السياسي، ما بلور فدرالية طوائفية تتناقض مع ممارسة الديمقراطية والأحكام الدستورية .

لقد جاء تأليف الحكومة يؤشر على هذه الأزمة باستبعاد الفريق المسيحي الرئيس، ما يعني خللاً على المستوى السياسي أمكن تداركه بتمثيل مسيحي آخر جاء على أكتاف الكتل الإسلامية الرئيسة الثلاث . لكن اعتكاف وزراء الطائفة الشيعية في الحكومة شل السلطة التنفيذية ودل على مأزق كبير للنظام السياسي، حيث يستحيل العمل بمنطق المؤسسة الحكومية في ظل هذا الفراغ ويستحيل تجاوز أو استبدال هذا التمثيل .

وما سمي ldquo;توافقية ديمقراطيةrdquo; صار فعلاً حقاً ldquo;بالنقضrdquo; أو ldquo;بالفيتوrdquo; تستخدمه قوى التمثيل الطائفي على مسيرة الحكم والدولة بقطع النظر عن رأينا في مضمون الموقف الذي أدى إلى المشكلة أو الأزمة . تتكرر الأزمة نفسها اليوم مع فائض من التوتر بين الجماعات في ظل توغل التأثيرات الإقليمية والدولية، وسعي هذه الجهات إلى بسط نفوذها على الموقع اللبناني بعد تزايد أهميته في ضوء نتائج حرب يوليو/تموز 2006 وتداعياتها .

من الواضح أن الأحكام الدستورية المرتكزة إلى القواعد الديمقراطية البسيطة تقول بالتصويت لاتخاذ القرارات، وهي حددت هذا التصويت بالأكثرية العادية للقرارات العادية والتصويت بالثلثين، أو الأكثرية الموصوفة للقرارات أو ldquo;المواضيع الأساسيةrdquo; التي حددتها المادة 65 من الدستور .

لكن مقدمة الدستور وهي تنطوي على أحكام عامة ذات قيمة دستورية خالصة قالت في فقرتها الأخيرة ldquo;يrdquo; ldquo;لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشتركrdquo; .

وهذا الميثاق هو ما اصطلح تاريخياً على تسميته ldquo;الصيغة اللبنانيةrdquo; أي حكم المشاركة بين المجموعات الطائفية والتي تعلو أهميتها وقيمتها على الدستور نفسه . فاذا كان الدستور ينظم عمل الدولة ومؤسساتها، فإن الصيغة تنظم عمل الكيان اللبناني كله .

والأمثلة على الأزمة التي نحن فيها لا تقتصر على عمل الحكومة بل هي أيضاً طاولت موضوع رئاسة الجمهورية، إذ إن تحديد موضوع الرئاسة وحسم مصيرها سياسياً ودستورياً يحتاج إلى توافقات وطنية خاصة من الفريق الطائفي الذي تمثله فضلاً عن الأكثرية الديمقراطية التي ينص عليها الدستور .

لقد اجتزنا من خلال تسوية ldquo;الدوحةrdquo; هذه الأزمة لندخل اليوم في أزمة تطرح مباشرة توزيع جميع السلطات والصلاحيات والتوازنات في ما بينها وداخلها .

يقول البعض في لبنان، إن مصدر الأزمة هو اتفاق ldquo;الطائفrdquo;، إما لأنه أنشأ نظاماً دستورياً هجيناً، معقداً ومركباً، وإما لأنه لم يبلور أحكاماً واضحة تجيب عن كل المشكلات التي يطرحها النظام الدستوري في الممارسة العملية . يتجاهل هؤلاء أن اتفاق ldquo;الطائفrdquo; وما صار منه أحكاماً دستورية ما هو إلاّ انعكاس لميزان القوى السياسي وتجسيد للصيغة اللبنانية، وهو ليس مجرد نصوص يمكن تعديلها وتحسينها في ضوء الفقه الدستوري، بل تجب معالجتها بروح التوافق الوطني، روح الميثاق وروح الصيغة . ونحن نعتقد أن الخلل لم يكن في ldquo;الطائفrdquo; ولا في النصوص الدستورية، بل هو يرجع إلى الممارسة السياسية من قبل الفريق الحاكم الذي سيطر على الدولة بعد ldquo;الطائفrdquo; وبنى سلطة سياسية ولم يبنِ دولة . والمدخل الرئيس لحل هذه المشكلات يكمن في قانون الانتخابات بالدرجة الأولى عليه بشكل رئيس أن ينتج المؤسسات الدستورية، طبعاً من دون أن يكون هذا القانون هو الحل السحري للمشكلات، فيجب أن تترافق معه جملة إجراءات كان ldquo;الطائفrdquo; قد حددها لبناء الدولة الحديثة، لكن قانون الانتخابات يلعب الدور الرئيس في مشكلة التمثيل السياسي، وعليه أن يسهم في تطوير الممارسة الديمقراطية . في اتفاق ldquo;الدوحةrdquo; تم التواطؤ بين جميع القوى الطائفية على قانون يحافظ على شرعيتها لكي يعطيها حق النقض الدائم على مؤسسات الدولة .

لقد أدرك ldquo;الطائفrdquo;، بما هو حصيلة حوارات بين اللبنانيين، وبما هو نتيجة للخبرة التاريخية لا سيما النزاعات التي أدت للحرب، أن الطائفية السياسية هي النقيض الفعلي لبناء الدولة الوطنية الواحدة، كما أدرك في الوقت عينه، أن الطوائف اللبنانية تحتاج إلى ضمانات في مشاركتها لبناء هذا الوطن، وأدرك أن الدولة لا تقوم إلا على حقوق المواطنة والمساواة في هذه الحقوق .

قال ldquo;الطائفrdquo; الذي صار دستوراً:

1- إحداث توازن سياسي طائفي في المؤسسات تمهيداً لتجاوز الطائفية .

2- إحداث مجلس شيوخ يؤدي وظيفة الضمان للجماعات الطائفية .

3- تحرير التمثيل السياسي الشعبي من القيد الطائفي واعتماد نظام تمثيل عادل لشتى فئات الشعب .

4- جعل السلطة التنفيذية في مجلس الوزراء مجتمعاً كهيئة جماعية .

5- اعتماد الأكثرية الموصوفة (أكثرية الثلثين)، في قرارات مجلس الوزراء التي تتعلق ldquo;بمواضيع أساسيةrdquo; حددها تؤثر في خيارات البلاد الكبرى .

6- بناء سلطة قضائية مستقلة، تؤمن سيادة القانون وخضوع المسؤولين للقانون .

كما أن ldquo;الطائفrdquo; عالج مشكلات أساسية على الصعيد السياسي تتصل بعلاقات لبنان الخارجية، وبثقافته الوطنية، من الكتاب المدرسي والتعليم بشكل عام إلى الإعلام، إلى اللامركزية الإدارية والتنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية . . الخ . .

لم يطبق من هذه الإصلاحات، حتى الآن إلا التعديلات الدستورية التي تتعلق بتوازنات السلطة .

تحديد صلاحيات رئاسة الجمهورية وكيفية تشكيل الحكومات .

سلطة مجلس الوزراء، ورئيس المجلس والوزراء .

العلاقة بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية .

وهذه الأمور على أهميتها، وهي كانت موضوع نزاع، لا تكفي لبناء الدولة، وكان ينبغي إقامة ورشة وطنية دائمة لتطبيق تلك الإصلاحات ولا سيما إنشاء الهيئة الوطنية العليا لإلغاء الطائفية .

الآن نحن في مأزق وطني كبير نتيجة استفحال المشكلة الطائفية . ومرّة أخرى نحن أمام خيارين أساسيين، إما الجنوح نحو الفدرالية الطائفية، وهو ما يحتاج إلى شكل من أشكال ldquo;الحرب الأهليةrdquo; ليستكمل مقومات هذا الخيار، وإما أن نبدأ فعلاً بتطبيق مجموعة البنود الإصلاحية من خلال سلطة انتقالية . والطائف يفترض دولة وطنية حديثة واحدة توافقية ديمقراطية غير طائفية بالمعنى المعروف للطائفية السياسية .

ماذا يعني هذا الكلام من الناحية السياسية؟ يعني أننا نحتاج إلى كم كبير من التنازلات يقدمها زعماء الطوائف إلى مؤسسة المؤسسات (الدولة) . وهذا الأمر يحتاج إلى استنهاض كتلة تاريخية جديدة ضاغطة في سبيل تقوية هذا الخيار، كتلة وطنية برنامجها بناء الدولة الواحدة، رفضاً وتداركاً لحرب أهلية جديدة تنهض في وجه هذه المهمة صعوبة أخرى، هي التجاذب الإقليمي والدولي الذي يأخذ القوى إلى خيارات سياسية تتعلق بموقع لبنان ودوره .

وهذا هو الوجه السياسي من الأزمة الراهنة التي تتعدى عمل المؤسسات الدستورية وكيفية اتخاذ القرار فيها، لكن هذه الصعوبة ليست منفصلة عن الموضوع الدستوري . فالمسألة كلها تتعلق بفكرة الدولة وبناء الدولة .

والطائف نفسه وضع أسساً لحل هذه المسألة:

لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه .

عربي الهوية والانتماء

لا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين

تحرير لبنان من الاحتلال ldquo;الإسرائيليrdquo;

علاقات مميزة مع سوريا

إذا، كانت هذه هي المسلمات الوطنية، فيمكن من خلالها معالجة الخيارات الوطنية، في ما خص سياسة لبنان الدفاعية وسياسة لبنان الخارجية، والمطلوب الآن ورشة عمل وطنية شاملة لا تقوم على فكرة إيجاد تسوية سياسية مؤقتة بين الأطراف السلطوية المتنازعة، بل على اجتراح صيغة تدير علاقات اللبنانيين خارج معطيات اللحظة السياسية الراهنة . هذه المهمة لا تقوم بها أطراف دولية ولا إقليمية مهما كان دورها في لبنان، بل هي مهمة على الأطراف اللبنانية بلورة عناصرها .