مأمون فندي

هناك قاسم مشترك بين ثورة تونس، وتقسيم السودان، والفشل في لبنان، والفوضى في العراق، وانهيار الدولة في الصومال، واحتمالية فشل الدولة في اليمن، وما بينها من حالات الدول العربية الفاشلة أو التي في طريقها إلى الفشل، هذا القاسم المشترك هو أن laquo;الدولة بتتكلم أرضيraquo;، بينما انتقلت الشعوب إلى حالات التليفون المحمول والإنترنت، والوصلات العشوائية غير القانونية للقنوات المشفرة، وفي معظم البلدان العربية تدعو شركات الاتصالات التابعة للدولة المواطنين من خلال إعلانات مدفوعة الأجر إلى أن laquo;يتكلموا أرضيraquo;، ولا مجيب. هذا ليس توصيفا تقنيا، يدعو إلى التأمل في عالم الميديا وتكنولوجيا المعلومات، بقدر ما هو ترميز أو صورة أو استعارة مكنية لوصف الهوة ما بين الدولة والمجتمع في المنطقة المسماة مجازا بالعالم العربي، بما فيه من أنظمة تتأرجح بين ديمقراطية، وسلطوية، وديكتاتورية، وفوضى. هذه الهوة القائمة بين المحمول والأرضي مجازا، هي التي ستؤدي حتما إلى تمزيق العالم العربي، إما عن طريق الثورات وإما الانقلابات وإما الانشطارات والانقسامات كما نرى في حالة السودان، والسبب هو أن الدولة تتحدث بلغة، والناس يتحدثون بلغات أخرى متعددة.

عندما باع الشيخ صالح كامل قناة الـlaquo;إيه آر تيraquo;، تصور البعض أنها مجرد صفقة، ولم نسأل لماذا خرج رجل الأعمال الناجح من هذا العالم الفضائي المشفر، والمفروض أنه مربح، أو بقرة حلوب (كاش كاو)، خرج الرجل لأن عشوائيات القاهرة كما عشوائيات تونس، وهي الجمهور الكبير المستهدف من القنوات المشفرة، قد فك الشفرة، واستعاض عنها بالوصلات المحلية وحول الربح من جانب صاحب القناة إلى خسارة، وأصبح الربح يدخل جيوب الشباب الذين يديرون الوصلات المحلية. فقد كان الناس في الأحياء ذات التكدس السكاني العالي مثل شبرا وإمبابة والوراق، أو حتى سيدي بوزيد في تونس، يستخدمون الوصلات المحلية. فمثلا يشتري أحدهم laquo;كارتraquo; لقنوات مشفرة ثم يعيد بثه من خلال غرفة بث سرية أو سرداب في بيته إلى كل الحارة مقابل سعر زهيد يصل إلى عشرة جنيهات في الشهر، أي دولارين. كان في شبرا مشترك أو اثنان في قناة الـlaquo;إيه آر تيraquo;، أو laquo;أوربتraquo;، ولكن كل شبرا تشاهد القناتين، ليس هذا فحسب، وإنما في مدن كثيرة من المحلة الكبرى إلى الصعيد إلى الدلتا يقوم مجموعة من الشباب المعروفين بشباب الوصلة، كما جاء في وثائقي قناة الحارة، بتوصيل مجموعة من القنوات، أي باقة قنوات مشفرة إلى القرى والنجوع والأحياء العشوائية بأجر زهيد جدا، مضافا إلى هذه الباقة قناة محلية يبث من خلالها أصحاب الوصلة إعلانات الحارة أو النجع من وفيات وزفاف وطهور، وإعلانات الخضراوات، وكانت الوصلة أكثر شعبية من كل تلفزيونات الحكومة. لذا كان المرشحون في مجلس الشعب يعتمدون على الوصلات غير الشرعية من أجل بث دعايتهم وليس على التلفزيون الحكومي. ولكن ما علاقة ذلك بثورة تونس، وتمزق السودان، وفشل الديمقراطية في لبنان، والدولة laquo;اللي بتتكلم أرضيraquo;؟

بعض الدول القمعية في عالمنا العربي كرجل يحمل عصا غليظة أو هراوة يطارد بها المجتمع، ولا حيلة أمام المجتمع سوى التخفي حتى لا تصيبه ضربة من هذه الهراوة الغليظة. فبدلا من أن يبني شوارع متسعة تصل إليها عربات البوليس ومركبات الجيش في حالات التمرد والعصيان، بنى أحياء عشوائية بشوارع ضيقة لا يمر فيها إلا التوك توك أو العجلة أو المشاة، لم يبن بيوتا عليها أرقام كما الحال في أوروبا، حيث الشوارع العريضة والبيوت ذات الأرقام، والتي تكون فيها علاقة الدولة بالمواطن واضحة، فللدولة عيون كما عيون البشر، شريطة ألا تحجب رؤيتها عن مواطنيها أحياء عشوائية. في الديمقراطيات الغربية ترى الدولة مواطنيها، حيث لا حجاب بين المواطن والدولة، عيونها تراه، وسياراتها وبريدها يصل إليه، لأن الشارع عريض ولكل بيت رقم وعنوان، أما عندنا فالعنوان هو laquo;منزل عم أحمد إلى جوار المخبز الآلي أو بقالة عم فلانraquo;، والمخبز والبقالة هما على رأس الحارة، نقطة التحام بين العشوائيات والدولة، أما ما بعد المخبز والبقالة فهو طرق ضيقة جدا لا تسمح بمرور السيارات، ولمن يريد زيارتها سواء أكان ساعي بريد أم جابي ضرائب، أن يترجل، ولا بد أن يستعين بالمعرفة المحلية ليعرف أين يعيش فلان في هذا العالم المغلق. لدى أهل العشوائيات كل أدوات التحكم في المعلومات، ومع ذلك لم تستسلم الدولة القمعية، فاستعانت بمخبرين ممن يمشون في الحارات على أرجلهم، ولكن الدولة كالأعمى في هذه العوالم المغلقة، فهي رهينة لمعلومات المخبر، laquo;ينضحك عليهاraquo; في كثير من الأحيان، وقد قالها زين العابدين بن علي laquo;غلّطونيraquo;، بتشديد اللام، أي laquo;ضحكوا عليّ، أو ضللونيraquo;، والتضليل يأتي ممن هم إلى جوار الرئيس، أو من المخبر، لأن الحالة العشوائية لا توجد في الأحياء الشعبية فقط، العشوائية أصبحت حالة ذهنية في الحكم أيضا، لذا laquo;ينضحك على الرئيس من فوق، ومن تحتraquo;، فتتخذ قرارات خاطئة بناء على معلومات مغلوطة تؤدي إلى هروب الرئيس في تونس، وتمزيق وطن في السودان.

عندما تحاصر الدولة القمعية الناس وتطاردهم حتى الاحتماء بالعشوائيات، فليس هناك سوى الهروب المطلق أو المواجهة الشرسة، وكما يقولون laquo;لو زنقت قطة في الحيط تخربشraquo;، وهذه الشعوب لا بد أن تخربش عندما لا تقيها العشوائيات من بطش الدولة.

وليقي نفسه من البطش، يهرب المجتمع من الدولة إلى العالم الموازي، عالم لا تعرفه الدولة، عالم متحرك، موبايل، ومرن على الإنترنت، والـlaquo;فيس بوكraquo;، هذا العالم تعرفه حركات التمرد التي تبحث عن وسائل التخفي المختلفة، كالحرباء تتلون بألوان الشجر، حتى تنفد بجلدها من قتل محتمل. فبينما الدولة laquo;تتكلم أرضيraquo; يهرب الناس إلى الموبايل، وعندما تحاول الاتصال بهم في أرقامهم الأرضية تسمع رنة جرس ولا مجيب، فيفسر ذلك أهل الحكم بأن laquo;محدش في البيتraquo; أو laquo;الناس في شغلهاraquo;.. وهذا يعني الاستقرار. ولا تعلم الدولة أن الدنيا تغلي في العالم الموازي، عالم الموبايل، وعالم الوصلات التلفزيونية غير الشرعية. ولكن الدولة لا تعترف بما لا تراه ولا تسمعه، من منطلق أن ما لا أراه وما لا أسمعه لا بد أنه غير موجود أصلا، وما لا أراه ولا أسمعه لا يضيرني في شيء. رغم أن ما لم تسمعه الدولة وما لم تره على مدى اثنين وعشرين عاما في حالة تونس هو الذي أدى إلى الثورة التي جعلت الرئيس يهرب من قصره، ما لم تره الدولة في السودان هو الذي أدى إلى تمزيق وطن.

في حربها مع الإرهاب في الفترة من عام 1990 إلى عام 1995 حاصرت الدولة المصرية حي إمبابة العشوائي، الذي كان يعرف بجمهورية إمبابة في تلك الفترة، جمهورية لها إعلامها من خلال الوصلات غير الشرعية، ولها وزير إعلامها، ولها مساجدها، ولما حاصرت الدولة إمبابة لم تعرف طريقا إلى دخولها، إمبابة كانت عالما مغلقا ومستغلقا على الدولة، كانت الدولة laquo;بتتكلم أرضيraquo;، وكانت إمبابة على الموبايل أو الوصلة، ظنت الدولة، ولسنوات، أن فقراء إمبابة نائمون كأهل الكهف، لأنها كانت ترن عليهم من آن إلى آخر على التليفون الأرضي الذي لا يجيب، لم تعرف الدولة أن العشوائيات قد هجرت التليفون الأرضي إلى عالم الإعلام البديل، ما فسرته الدولة على أنه استقرار كان هروبا وطناشا، وصحت الدولة فقط عندما اكتشفت أن إمبابة إمارة إسلامية كاملة، وهي دولة شبه مستقلة. عندما تكون الدولة خارج نطاق التغطية في العشوائيات، تتكرر تجربة تونس، لأن الدولة تخلفت عن المجتمع، لأن laquo;الدولة بتتكلم أرضيraquo;.