سعيد حارب

في كتابه laquo;مدافع آيات اللهraquo; يذكر الكاتب محمد حسنين هيكل أن شاه إيران بعد laquo;هربهraquo; من الثورة، تنقل في أكثر من بلد، حيث لم يكن مرحبا به، وكانت إحدى محطاته في بنما التي ضاقت به وبعائلته، وطلبت منه الرحيل، فاتصلت زوجته فرح ديبا بـ laquo;آغا خانraquo; رئيس مفوضية اللاجئين الدولية التابعة للأمم المتحدة، وطلبت منه توفير جوازات سفر للشاه وعائلته حتى يتمكنوا من التنقل بحرية، وحين تأخر عليها في الرد، واقتربت مدة بقائهم في بنما من نهايتها، أعادت الاتصال به في وقت متأخر ليلا وهي تبكي وتقول له، إننا في أشد الحاجة لأية وثيقة نستطيع أن نخرج بها من بنما laquo;أرجوك أن توفر لنا أي وثيقة، حتى لو كانت وثيقة لاجئينraquo;، لم يكن أحد يتصور أن يأتي يوم تطلب فيه إمبراطورة laquo;فارسraquo; التي تضع على رأسها تاجا فيه أكبر جوهرة اكتشفها البشر وثيقةَ لاجئين، لكن الشاه لم يكن الوحيد الذي لم يجد له ملجأ بعد laquo;هربهraquo; ولن يكون بن علي آخر الذين يهربون من شعوبهم، فهناك قائمة طويلة من هؤلاء الهاربين، لكن الطغاة لا يقرؤون التاريخ جيدا، ولا يستوعبون حركة الشعوب، فما الذي يجعلهم يسيرون في الطريق ذاته الذي سار فيه من سبقهم من الطغاة، ولماذا يكررون التجربة؟ إن laquo;صناعةraquo; الطغيان لم تتوقف منذ فرعون وهامان، ولن تتوقف عند بن علي ومن سيأتي بعده، فما الذي laquo;يصنعraquo; الطاغية؟
إن تجارب laquo;هربraquo; الطغاة تشير إلى أن الطغيان لا يسود بقوة الدكتاتور أو طغيانه، بل بضعف الشعب وخوفه وتردده، من خلال ترويع الشعب وتخويفه، كما برز في تجربة هرب بن علي الذي هيمن على تونس لا بقوته ولكن بنشر laquo;ثقافة الرعبraquo; بين الناس، وتقديم الهاجس الأمني على العدالة والحرية، وليس هذا دأب النظام المخلوع في تونس، بل هي حالة تسود كثيرا من المجتمعات، حين ينتشر الرعب من كل شيء، وتفرض الحالة الأمنية وجودها على الإنسان في المجتمع، فتشيع laquo;همساتraquo; بين الناس أن كل شيء تحت المراقبة، والتتبع الأمني، فالهواتف مراقبة، والبريد الإلكتروني الشخصي مراقب، وشبكة الإنترنت مراقبة، والرسائل مراقبة، والبيت والسيارة والمكتب وموقع العمل وكل شيء في حياة الإنسان مراقب أو laquo;تحت النظر الأمنيraquo; الذي لا يتوقف عند المجرمين والمطلوبين وحدهم، بل يطال الناس جميعا حتى تسود ثقافة الخوف من البطش الذي يمكن أن يلحق بمن يفكر أو يحلم بما لا يريده laquo;الدكتاتورraquo; أو الطاغية، فيعيش الناس في رعب يُلجم ألسنتهم عن مناقشة أبسط قضايا المجتمع حتى لو كانت laquo;زيادة حوادث المرورraquo; لأن الطاغية قد يعد ذلك طعنا في نظامه الذي لم يستطع أن يقلل من نسبة الحوادث، ومما يساعد على صناعة الطغيان، أن يعمد الطاغية إلى تقريب الأقرباء والأنساب والموالين، فيوليهم المسؤوليات والمناصب حتى لو كان أحدهم لا يستطيع أن يدير laquo;بقالةraquo; في حي صغير، ولا يملك من المهارات ما يملكه الكثير من أبناء الوطن، لكن laquo;الطاغيةraquo; يعمل بشعار laquo;الولاء قبل الكفاءةraquo;، فيشيع النهب والاستيلاء على المال العام، وسرقة ثروات الوطن، وشحنها لبنوك الخارج لتلقى نصيبها من التجميد -بعد سقوط الدكتاتور- laquo;للتأكد من مشروعية الحصول عليهاraquo; وهو السؤال الذي لم laquo;يتجرأraquo; أحد في الداخل أو الخارج أن يسأله -حتى مع نفسه- حين كان الدكتاتور واقفا على قدميه، لكنه حين يقع laquo;تكثر سكاكينهraquo;.
ولعل أخطر ما يرفضه الدكتاتور أن يكون لغيره رأي آخر على أساس القاعدة الفرعونية في قوله تعالى: (مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)، فالدكتاتور لا يحتمل رأيا غير رأيه، ولا يقبل أن laquo;يشاركهraquo; أحد رأيا، عدا عن مخالفته أو مناقشته أو مراجعته في أي رأي أو قضية، لذا فهو يسعى لتكميم الأفواه، ومنع الصوت الحر، وملاحقة الأحرار، أو تشريدهم في المنافي والمهاجر، أو تغييبهم في السجون، وبالمقابل يسعى للسيطرة على كافة وسائل التأثير التي تتفرغ لتمجيد أعماله وانتصاراته، فلا يرتفع صوت فوق صوته، وما يقوله هو الحق الذي لا يحتاج إلى بيان، فهو -وحده- القادر على فهم ما يحتاجه شعبه، وهو وحده الذي يعلم ما يفيد شعبه في دينهم ودنياهم (وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)، أما الآخرون، فهم مغرضون حاقدون يريدون نشر الفوضى في الوطن ولذا فالدكتاتور laquo;حريصraquo; على حماية الشعب من هؤلاء المفسدين (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ)، وحماية من هذا laquo;الفسادraquo; يمنع الدكتاتور الحريات العامة والخاصة، ويتدخل في شؤون الناس بأشكالهم وملابسهم وطرائق عيشهم، فهم -في نظره- ليسوى سوى قطيع يحتاج إلى قائد منقذ، وقد laquo;أنعم اللهraquo; به عليهم ليقودهم، وما عليهم سوى شكر هذه النعمة!.
لقد هرب بن علي من غضب شعبه، وقبله هرب فرديناند ماركوس من الفلبين، وإريك هونكر من ألمانيا الشرقية وعيدي أمين من أوغندا، وشاه إيران محمد رضا بهلوي، وجعفر نميري من السودان، وقبله إبراهيم عبود وآناستازيو ساموزا من نيكاراغوا وتشارلز تايلور من ليبيريا، وغونزاليس سانشيز من بوليفيا، وجان برتران اريستيد من هايتي وعسكر أكاييف من قرغيزستان ونيكولاي تشاوسيسكو من رومانيا وسلوبودان ميلوسيفيتش من يوغسلافيا، وكل هؤلاء هربوا بثورات شعبية في فترة لم تتجاوز ثلاثة عقود، وبات من يسأل: من التالي؟
لا تسألوا الطغاة.. اسألوا الشعوب؟