طيب تيزيني

نعيش في مرحلة كنا نظن أنها لن تطول كثيراً، اعتقاداً بأننا سندرك أهمية الإجابة عن القضايا والأسئلة الحاسمة في الاثنتين وعشرين دولة عربية، أما المرحلة التي نعنيها فلابد أنها تدخل في حقل الأعوام التي أعقبت حرب 67، أي تقريباً الأربعين عاماً المنقضية منذ هذه الحرب، فلقد كانت الهزيمة التي مُني بها العرب في هذه الحرب مع إسرائيل، ذات دلالات كبرى ومتعددة، بحيث اشتملت على القطاعات المجتمعية كلها في العالم العربي، فهي لم تكن ذات بُعد عسكري مباشر فحسب، لقد غطّت أيضاً تلك التي جمعت بين الاقتصادي والسياسي والثقافي والقيمي.

ولعله منذ السبعينيات أخذنا نلاحظ تحولات جديدة في كثير من البلدان العربية قدمت إشارات متعاظمة متتالية أمكنت قراءتها بمثابتها إخفاقات خطيرة، مثل الإخفاقات في قطاعات التنمية المستدامة اقتصاداً وتربية وثقافة وصناعة وقضاء، وقد ظهر ذلك خصوصاً في البلدان التي هيمنت فيها الشمولية مُجسدة في نظم الحكم ومنظومات حقوق الإنسان.

كان معظم المواطنين يتابعون، بقلق، ما يخترق حياتهم من آفاق مفعمة باحتمالات الفشل في كثير من الحقول المجتمعية، ولم يكن ذلك يعني شيئاً بالنسبة إليهم، فعناصر الفساد والإفساد والخراب راحت تتعاظم، خصوصاً مع ظهور بدايات التشكل العولمي، وإعلانه منظوماته الاقتصادية والسوسيوثقافية وغيرها، وما تتضمنه من آفاق شبه مغلقة أمام بلدان العالم الثالث خصوصاً، ومن ضمنها بلدان العالم العربي.

وفي سبيل إيضاح ذلك واحتمال تأثيره على العالم العربي، ننقل ما ذكره بليونير الإعلام التلفزيوني Ted Turner عن همومه الجديدة وهموم أمثاله، لنضع ذلك في وجه القضايا والأسئلة والهموم العربية: quot;إن أصحاب المليارات الكثيرة مشغولون الآن بتسريح كادرهم الإداري الوسطي قبل أن يكون لهم حق الحصول على راتب تقاعدي من الشركةquot;، ويتابع قائلاً: quot;إننا في طريقنا لأن نصبح المكسيك، حيث يعيش الأغنياء خلف الأسوار.. ويشغّل العديد من أصدقائي جيشاً من فرق الحماية الخاصة لخوفهم من الاختطافquot; (انظر ذلك في: فخ العولمة)، وقد انتج ذلك أن quot;السلطات الرسمية لم تعد تمثل سوى تداولة داخلية تابعة للمؤسسة: السوق يحكم، والحكومة تسيرquot; (من قول لـM.Brondel عام 1996).

وإذا كنا نلاحظ في الثقافة العربية راهناً حالة محشوة بمسائل تتصل بالخصوصية الثقافية والهوية، فإن ما يهتم به رجال العولمة هو quot;كل ما لا يتصل بقضايا التنمية المستقلة، أو استقلالية القرار الوطنيquot;، كما يشدد على ذلك الباحث التونسي الحبيب الجنحاني في كتيبه (العولمة من منظور عربي).

في هذا السياق المعقد تبرز ضرورة الأسئلة المعنية الحاسمة، التي لا تُمنح الأهمية الكافية من قِبل المفكرين والمثقفين والباحثين العرب، من مثل ذنيك السؤالين المذكورين، أي المتصلين بالتنمية والاستقلالية، مع أسئلة أخرى تتصل بالسوق العربية المشتركة، والتخفيف من أخطار اتساع الهوة بين الأعلين والأدنين.

مرحلتنا هذه -المعيشة- تشترط في النُظم العربية أن تراجع وضعياتها من موقعين اثنين، أما الأول فيتمثل في أن الغرب السائر قُدماً باتجاه العولمة على النحو الذي قدمه M.Brondel، لن يكون أقل من كابح لأي مشروع عربي فيه بعض الضوء للعرب، في حين أن الموقع الثاني يتجسد في طبيعة الخيارات التاريخية والحضارية والمستقبلية، التي يطرحها هؤلاء العرب، أما الاعتقاد الواهم بإعادة بناء العالم العربي وفق quot;أعلىquot; حلقة وصل إليها الغرب (وهي العولمة)، فإنه لن يجعلنا قادرين على اكتشاف اللحظات الحاسمة في التغيير العالمي الهائج، لكنه، مؤكداً، يجعلنا نحرص على البقاء في التصورات الاقتصادية والسياسية والسوسيو ثقافية المتحدرة من مراحل قريبة منا، التي أقل ما يقال فيها، إنها طريق للخيبة، وما نشهده الآن في العالم العربي، يقدم لنا مصداقية هذا الموقف وخطورته الملتهبة.