علي بن طلال الجهني


جاء في هذا الحيز وتحت العنوان نفسه بتاريخ 8/9/2009: لنفرض جدلاً، كما يزعم الكثيرون من عرب وأجانب، أن الذي دفع ويدفع الآلاف من شباب المسلمين إلى قتل أنفسهم هو البحث عن laquo;أقصرraquo; الطرق إلى الجنة والفوز بـ laquo;بنات الحورraquo;. وإذا فرضنا أن هذا الزعم صحيح، فالسؤال الذي يملي المنطق طرحه هو:

إذاً، ما الذي يدفع laquo;التاميلraquo; الهندوس في سريلانكا وفي الهند إلى قتل أنفسهم حالياً وفي الماضي القريب؟

وما الذي دفع الملحدين الشيوعيين في موسكو وفي laquo;بيتسبرغ في ما بين (وخلال) 1915 و1917 في روسيا إلى قتل أنفسهم؟

وما الذي دفع المسيحيين المتشددين في وطنيتهم من النازيين الألمان وغير الألمان في ما بين وخلال الأعوام 1930 و 1932 إلى قتل أنفسهم؟

لا بد أن يكون هناك سبب آخر أو أسباب أخرى، تدفع شباب المسلمين إلى قتل أنفسهم، غير، أو بالإضافة إلى laquo;البحث عن أقصر الطرقraquo; إلى الجنة؟

جاء في كتاب أريك هوفر laquo;المؤمن الصادقraquo; الذي ترجمه الدكتور غازي القصيبي، رحمه الله، ترجمة مبدعة وأضاف إليه الكثير، بأسلوبه الجذاب، في الصفحة 169:

laquo;إن الاستعداد للتضحية بالنفس يعتمد على مدى تجاهل المرء لحقائق الحياة. إن الشخص القادر على أن يراقب تجربته الذاتية ويفحصها ويستخلص منها العبر والنتائج لا يرحِّب، عادة بفكرة قتل نفسه من أجل غيره: التضحية بالنفس عمل غير عقلاني ولا يجيء نتيجة بحث وتحليلraquo;.

إن سبب قتل الإنسان لنفسه لا بد أن يكون نفسياً ذاتياً قد يُحسّنهُ لقاتل نفسه من يقنعه بأنه لا يقتل نفسه لمجرد العتق منها وإنما أيضاً لتحقيق هدف أسمى وأنبل. كل من تعمّد قتل نفسه، في كل الأماكن والأزمان لا بد laquo;أن يكون (إنساناً معذباًَ) يكره نفسه ويبحث جاهداً عن (العتق) من هذه النفس ليس لمجرد (قتل نفسه) لإنهاء عذابه وإنما أيضاًَ بالانتقام من (الآخر) الذي تم إقناعه بأنه هو سبب تعاسته وعذابه، وليس ظروفه الفردية وذاتهraquo;.

إنه الإحباط أياً كانت أسبابه، هو الذي يدفع من قد يبدو سوياً إلى قتل نفسه.

من الواضح أن الشاب التونسي، محمد بوعزيزي، كان إنساناً محبطاً أراد بإحراق نفسه إنقاذه من وضعه بلفت نظر الآخرين إلى عذابه الذي وصل إلى درجة لم يكن بوسعه تحملها.

laquo;ما الذي يقلق المحبطين؟ إنه الشعور أن أنفسهم ميتة وميؤوس منها. إن رغبة المحبطين الأساسية هي أن يهربوا من أنفسهم، وهذه الرغبة تتجسّد في النزعة إلى العمل الجماعي وإلى التضحية بالنفس. إن الاشمئزاز من النفس غير المرغوب فيها، وهاجس نسيانها وطمسها وإخفائها هو الذي يوجد الرغبة في التضحية بالنفس، وفي العمل الجماعي حيث تذوب النفس في المجموعraquo;، كما جاء في كتاب laquo;المؤمن الصادقraquo; ص 138.

والحديث هنا ليس عمن يقتلون أنفسهم لأسباب خاصة بهم ولأسباب فردية فقط، كالذي يقدم على الانتحار أمام الملأ أملاً بأن يأتي من ينقذه من تنفيذ الانتحار، لأن إقدامه على الانتحار ما هو إلا laquo;صيحةraquo; من أعماق الذات للفت أنظار الآخرين إلى عذابه النفسي الذي لم يعد يطيقه كما يقول علماء النفس.

وقد ثبت من تجارب الآلاف في مجتمعات غربية أن أكثرية من يقدمون على الانتحار أمام الملأ، ويتم إنقاذهم قبل قتل انفسهم أو خلاله، كانوا يتمنون بصدق وجود من يأتي ويحميهم من أنفسهم.

ولكن حديثنا هو عمّن يقتلون أنفسهم لتحقيق غرض سياسي، كتغيير اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي.

فالفقر بحد ذاته، على سبيل المثال، ليس مصدراً للإحباط الذي في أقصى درجاته يؤدي إلى الانتحار.

يقول مؤلف laquo;المؤمن الصادقraquo; ص 73:

laquo;عندما كان الذين يقومون بالأعمال اليدوية الشاقة يعيشون على حافة الكفاف، كانوا يعدّون أنفسهم ويعدّهم غيرهم، الفقراء (التقليديين). كانوا يعانون الفقر في أوقات الازدهار وأوقات الركود، ومن وجهة نظرهم لم يكن الكساد، مهما بلغت شدته، أمراً غريباً أو مزعجاً. إلا أنه مع ارتفاع مستوى المعيشة بين الناس أصبح للركود والبطالة معنى مختلف. يعدّ العامل في الدول الغربية البطالة أمراً مهيناً للكرامة. ويعتقد العامل في هذه الدول أنه تعرّض للافتقار والأذى، نتيجة أوضاع قائمة ظالمة يجد نفسه مستعداً للاستماع إلى الذين ينادون بالإطاحة بهاraquo;. حتى لو من طريق قتل النفس.

وخلاصة الموضوع أن تدني مستوى معيشة الأفراد بعد مرحلة سابقة كانت أفضل هو من أهم أسباب laquo;الإحباطraquo;. فالعاطل من العمل الذي لم يسبق له العمل ولم يمر في الماضي بحياة مادية أفضل لن تكون درجة إحباطه بقدر درجة إحباط من جرّب حياة أفضل.

والله من وراء القصد.