عثمان ميرغني

الأخبار المتسارعة في العالم العربي اليوم، لا تصيب المرء بالبلبلة فحسب، بل بالإحباط الشديد. حتى تونس التي حركت انتفاضتها العفوية الخيال العربي وتفاعل معها الشارع من المحيط إلى الخليج، باتت تتأرجح اليوم بين الوقوع في الفراغ والفوضى، أو العودة إلى النظام القديم برتوش جديدة. فالشارع غير راض عن نتائج التغيير الذي طالب به ودفع دمه من أجله، وهو يرى محاولات لإجهاض انتفاضته، وتذويب مطالبه في تغييرات تطال بعض الوجوه القديمة لكنها تبقي على النظام وتجعله مسيطرا على العملية الانتقالية التي يفترض أن تهيئ البلاد لانتخابات جديدة تنقلها نحو أفق التعددية الحقيقية وحرية التعبير والتنظيم.

عربيا، فهم البعض الانتفاضة التونسية على أنها حركة مطلبية معيشية، وأن المطلوب هو تقديم تنازلات اقتصادية مثل إلغاء زيادات أسعار السلع، لكي يرضى الناس ويعود الشارع إلى سباته العميق، في حين أن قراءة صحيحة للحال الراهن ولمزاج الشارع في عدد من دولنا توضح أن الناس لا يريدون فقط تخفيف الضغوط الاقتصادية عن كاهلهم، بل يتوقون إلى ظروف سياسية أفضل ومشاركة أوسع وحريات حقيقية. ولعل تكرار ظاهرة الانتحار الاحتجاجي بين الشباب في عدد من بلداننا، استلهاما لحالة الشاب التونسي محمد البوعزيزي، يعكس حالة يأس وقنوط إزاء تردي الأوضاع عموما وانتشار الإحباط وانعدام أفق التغيير. وإذا لم تحدث انفراجات حقيقية، فإن الحالة التونسية، على غموض نتائجها حتى الآن، ستكون قابلة للتكرار في دول أخرى تعيش احتقانا أشد من ذلك الذي عاشته تونس قبل الانفجار. والمواطن العربي لم يعد يستقي أخباره اليوم من الإعلام الرسمي أو المتحدثين الرسميين، لأن هناك أزمة مصداقية موروثة منذ عهد إعلام أحمد سعيد ومحمد سعيد (الصحاف). ساحة الانترنت والشبكات الاجتماعية أصبحت الملاذ الذي يلجأ إليه الناس لاستقاء معلوماتهم وتبادل الأخبار علما بأن هذه الساحة تتعرض أحيانا لدس الشائعات ممن يريدون التشويش لا التغيير، أو ممن يسعون للتدمير وليس للإصلاح.

المواطن العربي المحبط من الحال العام يختزن غضبا مكبوتا إزاء تردي الأوضاع وتغييب صوته، ويشعر بالقهر لحالة الضعف والاستكانة التي جعلت العربي مستضعفا ومستباحا، في ظل حالة من التشرذم والتناحر والتجاذب. فهناك غياب للتوافق العربي، مع انعدام في الثقة وارتفاع ملحوظ في النبرة الطائفية. والبيانات الرسمية لم تعد تقنع الناس بتحسن الحال، بينما الأخبار السيئة تتنافس على الصدارة في وسائل إعلامنا. فمن يتابع أية نشرة أخبار على شاشاتنا لا يجد أمامه سوى سرد يومي لعدد ضحايا التفجيرات في العراق الذي تنهشه المناحرات الطائفية، ولعدد قتلى حروب الميليشيات في الصومال المستمرة تحت أنظارنا منذ عشرين عاما تقريبا.. هناك أيضا أخبار اليمن الذي لم يعد سعيدا منذ أن أدمته حرب الأشقاء ونفذت laquo;القاعدةraquo; إلى مسام جسده بعد أن هربت من كهوف تورا بورا باحثة عن ملاذ جديد تنشر منه الدمار في المنطقة والعالم. السودان من الضفة الأخرى قدم للعرب نموذجا لما يؤول إليه الحال عندما تفشل الحكومات في ترسيخ مبدأ المواطنة وترجمته على أرض الواقع، وعندما يغرق المركز في متاهات السياسة فتشعر الأطراف بالتهميش والغبن الذي يدفعها لحمل السلاح ورفع ورقة الطلاق.

إذا كان السودان فشل في ورقة التعايش ودفع ثمنا غاليا من وحدة ترابه، وقد يدفع المزيد إذا لم تتبدل الأوضاع، فإن لبنان يقدم نموذجا آخر لفشل السياسيين في استيعاب فن التسامح والتعايش السلمي بين المكونات الطائفية أو المذهبية للحفاظ على وحدة الأوطان وصون دماء أبنائها. يبدو اللبنانيون اليوم مثل أهل البوربون laquo;لم يتعلموا شيئا ولم ينسوا شيئاraquo;، فيكررون الأخطاء ذاتها التي أدمت البلد الصغير وقادته إلى حرب أهلية طاحنة، وسلسلة من الهدنات الفاشلة، والمشاحنات المستمرة التي أعقبتها بين الحين والآخر معارك بالسلاح. سياسيو لبنان فشلوا في تحصين بلدهم ولجأوا إلى سياسة الاستقواء بالخارج، ففتحوا أبوابه منذ زمن بعيد للتدخلات الخارجية التي جعلتهم رهنا لحسابات وتجاذبات تجعل بلدهم قطعة شطرنج في ملعب الشرق الأوسط المعقد. لبنان أعجز كل الوسطاء وأحبط الحادبين عليه، وهو يندفع اليوم نحو مرحلة قد تعيده إلى مرحلة حرب قد تكون أقسى من حروبه السابقة.

الساحة الفلسطينية أيضا تواصل مسلسل الاحباط والتشرذم بين غزة ورام الله، ولا أمل في المفاوضات المعطلة التي تحدث منها تسريبات تزكم الأنوف. وفي حين يعاني المواطن الفلسطيني المغلوب على أمره، ترواح جهود المصالحة مكانها، وتتنازع القيادات على دولة لم تولد بعد.

هذه لمحة من الصورة العربية التي قد تجعلنا نفهم لماذا يستلهم بعض شبابنا الانتحار من الحالة التونسية، لكن يبقى متى نسمع صدى الشارع ونفهم كيف نخرج من هذه الحالة قبل أن يقضي الإحباط على الأخضر واليابس.