سركيس نعوم

أخطأ الرئيس سعد الحريري، وأخطأ معه شركاؤه السياسيون، عندما اعتبروا ان الغالبية النيابية لا تزال معهم رغم الانقلاب التدريجي عليهم وعلى الذات الذي قام به الزعيم الدرزي الابرز وليد جنبلاط بعد عملية 7 أيار 2008 التي نفّذها quot;حزب اللهquot; في العاصمة بيروت وبعد الصدامات التي وقعت معه في quot;الجبل الدرزيquot;. صحيح ان جنبلاط ساير حلفاءه (السابقين) في الانتخابات النيابية الامر الذي مكّنهم من ان يكونوا غالبية في مجلس النواب، سواء بواسطة الذين فازوا على لائحتيه في قضاءي الشوف وعاليه او حتى بواسطة نوابه. وصحيح ايضاً انه ساير الحريري تحديداً في مواقف عدة، وحرص على إبقاء تحالفه معه او على الاقل علاقة مميزة معه رغم مضيه قدماً في الابتعاد المبرمج من مسيحيي 14 آذار وفي مقدمهم quot;القوات اللبنانيةquot; ورئيسها سمير جعجع. وصحيح أخيراً إنه حرص على استمرار علاقاته الجيدة مع المملكة العربية السعودية حليفة quot;الشيخquot; سعد الحريري وراعيته بل حاميته. واعتُبر ذلك من الاخير علامة تؤكد ان الخيط بينه وبين جنبلاط لن ينقطع، وان الزعيم الدرزي الابرز لن يتخلى عنه في نهاية المطاف. لكن صحيح ايضاً انه كان على الحريري ان يعرف، وخصوصاً بعد نيف وخمس سنوات من تحمّل مسؤولية العمل السياسي والوطني كوارث للرئيس الشهيد رفيق الحريري في السياسة وفي رئاسة الحكومة، تاريخ الجنبلاطية في شكل عام بل التاريخ الدرزي، وان يعرف تحديداً ان quot;البقاءquot; هو الهدف النهائي بل الاستراتيجي والحيوي لهم، وان في سبيله تهون التضحيات الجسام سواء كانت نسيانا (ظاهرياً او فعلياً) لاستشهاد quot;عمود السماءquot; كمال جنبلاط كما كان يلقب، او تخلياً عن حليف وصديق وابن صديق بل اخ هو سعد الحريري.
ويبدو في كل ما حصل انه لم يُلِمّ بهذا التاريخ، وقد يكون معذوراً لحداثة تجربته في السياسة وحاجته الى مزيد من الاختبار والتَّعلُّم. ومثله كان الرئيس السوري بشار الاسد الذي لم يتعلم الا بعد 5 سنوات او اكثر قليلاً من تسلّمه السلطة وتحديداً بعد تعرّضه ونظامه وبلاده لهزيمة مدوية في لبنان في نيسان عام 2005. علماً انه ليس هناك عذر لعدم استعانته بخبرة العارفين ومعرفتهم من quot;اطقمquot; والده الشهيد وهي كثيرة، او لامتناع هؤلاء عن مصارحته بالحقائق وان تكن جارحة. كما انه ليس هناك عذر لاكتفائه بالذين لا يعرفون. انطلاقاً من ذلك كان يفترض في الحريري ان يعرف انه وفريقه فقدا الغالبية، وان يستعد للأسوأ، لا ان يتمسك بانها لا تزال معه الى ان يُعرِّضه خصومه لاختبار يؤكد له انه فقدها، كما حصل في استشارات قصر بعبدا في اليومين الأخيرين. كما كان عليه ان يستعد للمواجهة السياسية والنيابية داخل المؤسسات والشعبية السلمية خارجها. ولا نعني بذلك انه يريد الدم ان يحرض على الشغب. لكن في ظل الاحتقان المذهبي والطائفي والسياسي لا يمكن ان يؤدي تجاهل الحقائق الميدانية والسياسية والنيابية إلا الى الصدام فالدم ومن ثم الفتنة. إلى ذلك أخطأ الرئيس سعد الحريري في تعاطيه مع ملف المحكمة الدولية، مع اعترافنا بأنه موضوع بالغ الصعوبة والتعقيد، وخصوصاً عليه بالذات كونه ابن الذي استشهد دفاعاً عن لبنان السيد الحر المستقل العربي المتنوع وولي الدم. وأخطأ في تعاطيه مع المملكة العربية السعودية وخصوصاً بعدما تصالح مليكها عبد الله بن عبد العزيز مع رئيس سوريا بشار الأسد، وبعدما أطلقت المصالحة مسعى مشتركاً بين الزعيمين العربيين لترتيب علاقة الرئيس الحريري بدمشق وعلاقة لبنان بسوريا. في هذين الموضوعين تضاربت الأقوال والمعلومات والمواقف والتصريحات. فمن جهة كان هناك تمسّك بالمحكمة. ومن جهة أخرى، كان هناك استعداد للتخلي عنها. ومن جهة ثالثة كانت هناك ارادة في طلب مقابل لذلك. فهل صحيح ان المقابل الذي طُلب لم يكن يوازي أهمية التخلي عن المحكمة؟ وهل صحيح ان رفض احالة قضية شهود الزور على المجلس العدلي موقف مبدئي، او موقف ناجم عن خوف من دخول كثيرين مهمين جداً السجن على حد قول الحريري للرئيس نبيه بري في أحد اللقاءات القصيرة بينهما قبل اسابيع؟ وهل صحيح انه التزم امام العاهل السعودي انجاز ما يلزم لبنانياً لجعل المحكمة غير ذات موضوع، لكنه في المقابل واصل محاولة اقناع من يلتقي من زعماء العالم ومنهم اوباما رئيس اميركا باقناع السعودية بوقف ضغطها عليه كي ينسى المحكمة؟ وهل صحيح ان اوباما سأل الملك عبد الله في لقائه به اخيراً في نيويورك: لماذا تضغط على سعد الحريري في موضوع المحكمة؟ وهل صحيح ان العاهل السعودي قرر في ذلك اليوم وربما في ذلك الاجتماع التخلي عن المسعى المشترك مع سوريا لايجاد حل لمشكلة المحكمة وتالياً لبنان؟ وهل صحيح ان ما قاله الرئيس الحريري في quot;الشرق الأوسطquot; عن المحكمة وشهود الزور وعن علاقته مع سوريا لم يكن يعكس بدقة موقفه؟ ولماذا؟
واما في موضوع مقام رئاسة الوزراء المحفوظة للطائفة السنية الكريمة والانقلاب الحاصل حالياً يمكن لفت الناس إلى أمرين. الأول، ان الانقلاب الفعلي حاصل من زمان، واصحابه امسكوا بمعظم المفاصل الأساسية في الدولة. والثاني، ان شلل الحكومة وتالياً شلل الموقع السني حاصل من زمان أيضاً. واعادته الى الحركة بل الى الحياة لا تكون في الشارع المفتوح على الدم في أي لحظة، ولا سيما في بلاد تضم quot;شوارعquot; عدة كبيرة وقوية وفاعلة ومتناقضة. وكل ما يمكن قوله هنا هو ان لبنان ليس تونس.
في اختصار لا يرمي كل هذا الكلام إلى احباط الحريري الابن أو فريقه. فنحن كنا أوفياء لمسيرة الأخ والصديق الشهيد رفيق الحريري. ولا نزال. لكننا قبل ذلك كله نحن أوفياء للوطن ولأولادنا وأحفادنا ولشعوبنا. انطلاقاً من ذلك نحاول جعل الناس يتبصرون ودعوتهم إلى التعقّل، وإن أحياناً عبر مواقف أو معلومات يعتبرونها مزعجة أو ربما مسيئة. وفي هذا الإطار لا بد من قول ثلاثة أشياء لـquot;المستقبلquot; و14 آذار وتحديداً لزعيم الاثنين سعد الحريري. الأول: ان حلفاءهم الاقليميين والدوليين لا يستطيعون نجدتهم كما تستطيع سوريا وايران نجدة خصومهم. وجل ما يفعلونه، اذا قرروا ذلك، هو الذهاب الى مجلس الأمن في حال وقوع فتنة لا سمح الله. فهل نهدر دماء ابنائنا لكي يصدر مجلس الأمن قراراً في مصلحة فريق لبناني ضد آخر؟ علماً ان احداً لا يضمن تنفيذه على الأقل قبل تحول الدم انهاراً. وقد ظهر ذلك واضحاً في موقف واشنطن، الذي هو انتظار تأليف الحكومة لمعرفة مدى سيطرة quot;حزب اللهquot; عليها. فهل هذا جهل أم تجاهل أم quot;تغابيquot;؟ ذلك ان الجميع في المنطقة والعالم يعرفون سيطرة الحزب وحلفائه على لبنان. كما ظهر من مواقف جهات ديبلوماسية قال معظمها، وهو متعاطف مع الحريري، quot;ما دامت الأمور تسير ضمن قواعد الدستور فنحن لا نستطيع الاعتراف إلا بالأمر الواقعquot;. والأمر الثاني، ان الشارع قد يخرج على إرادة الذي حركه. وسعد الحريري لا يؤمن بالدم. ونحن نعرف ذلك، لكن شارعه كما شوارع الآخرين مُخْتَرَقَة، وأي جموح له وتالياً أي تحوّل له نحو نوع من الانتفاضة المستمرة أو الفتنة المذهبية سيجعل quot;الانقلابquot; الذي يتحدث عنه 14 آذار حقيقياً بكل معنى quot;الكلمةquot;. ولن يكون الحزب وحده مُنفِّذه. فهل يصب ذلك في مصلحة الديموقراطية، فضلاً عن ان ذلك قد يطلق حرباً شيعية ndash; سنية؟ وهل للحريري مصلحة في ذلك؟
أما الأمر الثالث، فهو ضرورة أن يقرر الرئيس الحريري أولاً وبالتشاور مع حلفائه الموقف الذي سيتخذه من الحكومة الجديدة. وهناك فقط موقفان ممكنان. الأول، مقاطعة الحكومة والجلوس في مقاعد المعارضة في مجلس النواب. وذلك يفيد في الابتعاد عن المسؤولية عن اي موقف سلبي من المحكمة الدولية. والثاني، الاشتراك فيها مع ثلث معطل وفقاً لاتفاق الدوحة. وفائدته تكمن في التصدي لمحاولات الأذى الذي قد يتعرّض له فريق 14 آذار (فساد ndash; شهود زور - سجن). علماً ان موضوع الفساد قد يلقى تجاهلاً بعض الشيء لأن فريقي الصراع في البلاد ليسا بعيدين منه.
طبعاً يتمنى البعض المتطرف التصعيد من خلال انتقال الحريري الى الخارج وتأليفه حكومة منفى. ولكن ومن دون خوض في التفاصيل، فإن موقفاً كهذا يكون انتحاراً.
في اختصار ذكّرت quot;الكلمةquot; المهدِّئة للرئيس سعد الحريري بعد ظهر امس بالرئيس الشهيد رفيق الحريري، رحمه الله.