جميل مطر

انقسمت الآراء في العالم العربي حول الثورة التونسية . رأي يقول، أو يتمنى، أن تكون الثورة حدثاً منعزلاً في طريقها للانطفاء بتقادم الوقت أو في طريقها إلى الفوضى، وفي الحالتين تفقد الثورة بريقها في العالم وشعبيتها في محيطها العربي . أصحاب هذا الرأي في غالبيتهم قائمون على حكم بلادهم ومنفذون لنوع معين من سياسات اقتصاد السوق سائد في المنطقة ومنتفعون منه، وجماعات بيروقراطية مشتغلة بالإعلام أو بنوع أو آخر من أنواع الأمن، وما أكثر هذه الأنواع فقد كشفت أحداث تونس عن وجود أمن رسمي وأمن موازٍ وأمن متخف وأمن مرتزق وأمن مستورد وأمن خاص لرجال الأعمال والفنانين وغيرهم من المشاهير .

رأي آخر يقول، أو يتمنى، أن تكون ثورة تونس حلقة في سلسلة ثورات . أصحاب هذا الرأي يعتقدون أن الثورة كشفت عن حقيقة لم تكن قبل وقوعها مؤكدة، وهي أن المجتمعات العربية كلها ldquo;حبلىrdquo; بالثورة، وأن انفجار بقية الثورات قادم من دون شك لا يؤخره سوى انتظار المفجر المناسب في اللحظة المناسبة . كان المفجر في تونس إقدام الشاب بوعزيزي على الانتحار حرقاً في سيدي أبوزيد . وقد تصور كثيرون خطأ أن المفجر الواحد صالح لتفجير ثورات في أماكن أخرى وفي أوقات مختلفة غير مدركين أن لكل ثورة مفجرها الذي يعيش بيننا، نراه كل يوم ولا نعرفه . أصحاب هذا الرأي، ليسوا جميعاً من الفقراء أو المتمردين أو المخربين أو الإرهابيين أو الإسلاميين أو المعارضين التقليديين والشباب العاطل والطبقة الوسطى المنحدرة، هم كل هؤلاء وأكثر . بعضهم لا يعتبر نفسه صديقاً للغرب، ولأمريكا تحديداً، ولكنه يقتبس من تصريح هيلاري كلينتون في دولة قطر قولها إن ldquo;أسس المنطقة غرقت في الرمالrdquo; . أحدهم تفاخر أمامي وفي حضور آخرين بأن الوزيرة الأمريكية صارت تستعير قناعات قادة التيارات الإصلاحية والديمقراطية في العالم العربي وتنسبها إلى نفسها . وقال لقد ldquo;تأخرت علينا أمريكا وستدفع الثمنrdquo; .

يقولون أيضاً إن معظم أنظمة الحكم العربية لجأت على الفور إلى زيادة الدعم للسلع الأساسية، وبعضها لجأ إلى تقديم معونات نقدية للفقراء والطبقة الوسطى والكثير منها عاد ليقبض بيد من حديد على نظام الأسعار متدخلاً بحياء في السوق، ومدعياً أنه ساع لكبح جماح رجال الأعمال والتجار . كاد القادة العرب أن يجتمعوا في شرم الشيخ على ضرورة التخفيف من الأعباء الاقتصادية على المواطنين . ولا أجد تفسيراً أو تبريراً للإجراءات المترددة والرمزية التي اتخذتها بعض الحكومات العربية إلا خوفها من امتداد لهيب الغضب التونسي فيلتحم بلهيب غضب الشعوب العربية الأخرى . اجتمع القادة العرب كذلك على رفع درجة الاستعداد بين جميع قطاعات الأمن، وهو ما لم يفعلونه من قبل لمواجهة أي خطر إقليمي أو داخلي هدد سلامة شعوبهم وأمنها ومستقبلها .

يتحدث الناس في المنتديات ومواقع العمل والمراكز التجارية عن اشتباهات وشائعات تلمح إلى أن ثروات هائلة خرجت من بلادها العربية في الشهر الأخير، وأن استثمارات كانت مقررة عادت تتلكأ، وأسواقاً مالية تنكمش، وصفوفاً في المعارضات السياسية تلملم نفسها، وتصفي خلافاتها، وتجسر اختلافاتها، وأن حكاماً قلقين إلى درجة جعلت عدداً منهم يغادر القمة الاقتصادية والاجتماعية الثانية في شرم الشيخ قبل أن تنتهي من أعمالها رغم إلحاح عدد آخر على ضرورة الاستمرار للإيحاء للجماهير العربية بأن شيئا لم يتغير .

كانت واضحة، وبخاصة خلال الأيام الأولى، نبرة تعبر عن خيبة أمل في بعض الدول الغربية وكثير من العواصم العربية عندما ظهر أن الثورة التونسية نشبت من دون دور واضح قامت به التيارات الإسلامية . وقد يكون الارتباك الذي ظهرت عليه أجهزة الإعلام الرسمية في أغلب الدول العربية وقع بسبب غياب الدور الإسلامي في تفجير ثم تسيير هذه الثورة . وكان من الممكن أن تكون المهمة أيسر كثيراً لدى حكومات الغرب والعرب لو تحققت في الثورة التونسية تهديداتهم وإنذاراتهم التي استمرت من دون توقف خلال العقدين الأخيرين تحذر من خطر استيلاء الإسلاميين على الحكم في كل الدول العربية . لقد قامت فلسفة الأمن الدولي والإقليمي والمحلي خلال هذين العقدين على نظريات الإرهاب والحرب ضده . بل إن بعض الإفراط في استخدام القمع والاستبداد وجد ويجد تبريره في هذه النظرية . وجاءت مرحلة هدأت فيها أعمال العنف وعندها شعرت أنظمة حكم عديدة بأن الاعتماد على خطر التهديد الإسلامي لمواجهة غضب الجماهير لم يعد كافياً أو مقنعاً . لذلك جرى توقع بين معلقين في الخارج بأن أنظمة الحكم العربية في حاجة إلى ما ينشط ذاكرة الشعوب حول التهديد الذي يمثله الإسلاميون . وفي هذا السياق جاءت الثورة التونسية الخالية من الدور الإسلامي أشد إحباطاً لحكومات تعودت استخدام الدور الإسلامي ذريعة لا تعرف غيرها . وفي مقابل خيبة أمل المنظّرين لأنظمة الحكم في كثير من الدول العربية شعرنا في كتابات عربية كثيرة بنبرة تفاؤل تعكس التمني أو الأمل في أن تكون الثورة التونسية قد قدمت الدليل، غير القاطع بعد، على أن التيارات الإسلامية ليست بالقوة التي حاولت معظم حكومات العرب والقيادات الإسلامية ذاتها في أنحاء شتى من العالم الإسلامي إقناع خصومها ومؤيديها بها .

لم يكن لدى الغرب ولدى بعض المفكرين العرب قبل انفجار الثورة شك في أن التيارات السياسية الإسلامية في العالم العربي قوية وتتصدر صفوف القوى المعارضة . اختلف الأمر شيئاً ما بعد الثورة، وما زال مختلفاً . إذ تسرب الشك لدى كثيرين في داخل المنطقة العربية وخارجها في مقولة سادت واستقرت خلاصتها أن هذه التيارات تملك نواصي القوة في الشارع العربي، تحوز وقدرات تنظيمية هائلة . فقد نشبت في تونس أول ثورة ldquo;شعبيةrdquo; في العالم العربي من دون توجيه أو قيادة من الإسلاميين ونشبت احتجاجات في اليمن والجزائر والمغرب وتحركت قوى سياسية عديدة في دول أخرى، ولم يظهر الإسلاميون الذين قيل مراراً وتكراراً إنهم لن يتركوا فرصاً كهذه تضيع من دون أن يستغلوها للقفز على الحكم . وفجأة بعدها نشط إرهابيون هنا وهناك أو عادت أصابع الحكومات تلقي بمسؤولية جرائم سياسية وتفجيرات على تنظيمات إسلامية .

* * *

ماذا يخفي المستقبل؟ يخفي مشاهد عدة . تقول التجربة إن العالم العربي لم يختبر نفسه من قبل في ثورة مماثلة لثورة تونس التي تجاوزت الوقت الذي درجت عليه الانتفاضات، كانتفاضات الخبز في تونس والجزائر ومصر وغيرها، وتجاوزت حدود صبر العالم الخارجي حتى بدأ الفهم أو التفهم ثم القلق والاستعداد ببدائل للتدخل . يظهر هذا في سلوك الدول المحيطة، حيث كان واضحاً ضيق الصدر في ليبيا والجزائر وفرنسا وإيطاليا، ولا يخالجنا أدنى شك في أن جهات كثيرة حاولت، وستواصل محاولاتها، إجهاض هذه الثورة أو العمل على تحديد مسارها أو إثارة الفوضى في تونس إن استدعى الأمر لعزلها عن محيطها، ولكن من دون تعريضها لاحتمال السقوط كدولة فاشلة مثل الصومال أو شبه فاشلة مثل العراق واليمن أو دولة على وشك الفشل مثل السودان، فتونس لموقعها وتركيبتها الثقافية أهم من أن تترك للسقوط .

من ناحية أخرى، يصعب أن نتصور أن تخفف الحكومات العربية من قبضتها الأمنية في الأسابيع القليلة المقبلة، يسود الاقتناع بأننا سنشهد سيطرة أقوى وعنفاً أشد ضد أي تحرك أو قوى تفجير . لن ينسى القائمون على أمور الدول العربية كافة أن زين العابدين بن علي أخطأ مرتين، مرة حين غفلت عيناه للحظة، وهي اللحظة التي أعقبت انتحار الشاب بوعزيزي وخروج مواطنين إلى الشارع . ومرة ثانية حين ظهر أمام الشعب التونسي في شكل الرئيس المستعد لتقديم تنازلات، حتى لو كان يكذب على الناس ويخدعهم . بدا شاوسسكو متساهلاً ومتنازلاً بعد 24 سنة من حكم متصل وشرس فقتله المتظاهرون مع ldquo;زوجته الحديديةrdquo;، وظهر ابن علي متنازلاً حين قال إنه لن يرشح نفسه في عام 2014 فجلب على نفسه النفي والتشريد بعد 23 سنة من حكم أيضاً متصل وشرس، بينما يقف غباغبو الرئيس العنيد صامداً يتحدى إفريقيا بأسرها والمجتمع الدولي رافضاً أن يتنازل أو يتساهل رغم الضغوط والتهديدات المحلية والأجنبية . ثم لا ننسى أن أحمدي نجاد لم يتردد، ولم يتساهل خلال أزمة انتخابات الرئاسة، ولم يخفف من قبضة النظام الصلبة رغم خطورة الوضع في طهران وخارجها ورغم أيضاً انقسام الطبقة الحاكمة، وبقي رئيساً للبلاد حتى يومنا هذا، بل إنه رغم اندلاع الثورة التونسية استمر في تنفيذ سياسة رفع الدعم عن بعض السلع الأساسية ما يدل على ثقة النظام بنفسه . وكان لافتاً للنظر أن البرلمان الإيراني صوت بأغلبية 228 من 290 ldquo;تأييداً للحركة الثورية التي قام بها الشعب التونسي الشجاعrdquo;، وهو ما لم يفعله برلمان آخر في العالم العربي . ولفت النظر في الوقت نفسه إلى أنه لم يصدر من تركيا ما يشير إلى وجود توتر أو قلق من وصول العدوى .

بمعنى آخر، لم تظهر علامات قلق أو توتر في أي من دول الجوار غير العربية، لم تتأثر ثقة حكومات إيران وتركيا وrdquo;إسرائيلrdquo; بنفسها، لم تضاعف احتياطات الأمن فيها، ولم تلجأ إلى تخفيف الضغوط الاقتصادية والاجتماعية على شعوبها .

حكومات العرب فقط هي الخائفة ولا أحد غيرها .