شريف عبدالغني

إنها نسائم زكية فاحت لتغطي سماء المنطقة العربية, عقود مرت على ما يسمونه laquo;الاستقرارraquo; الذي كان في حقيقته laquo;جموداraquo; أسفر عن رائحة laquo;عفنraquo; بفعل الفساد الذي لم يُغطِّ فقط laquo;رُكَبraquo; كثير من الأنظمة، بل وصل إلى laquo;كيعانهاraquo; وصدورها. في توقيت متزامن خرجت مجموعة من الحكام والمسؤولين ومن خلفهم حاشيتهم في الإعلام ليؤكدوا أن بلدانهم ليست laquo;تونسraquo;، ووصلت الثقة بأحدهم أن يقول لو تكرر عندنا ما صار في تونس لخرجت إلى المتظاهرين ليرجموني! وتزامنا مع هذه التصريحات كانت laquo;عدوى الياسمينraquo; التونسية تنتشر في الجو لتصيب حشوداً من الشباب في عمر الزهور لينثروا الزهور المحملة بروائح الياسمين والنرجس والفل والورد البلدي في سماوات كبرى الميادين العربية، وليقولوا بـ laquo;الفم المليانraquo; إننا شعوب ما زالت تدب فيها الحياة.
مخطئ من يظن أن هؤلاء الشباب يخدمون شعوبهم وحدها، الحقيقة أنهم يقدمون خدمة جليلة للأنظمة أيضا، فهم يوضحون للحكام حقيقة الأوضاع التي يتعمد مستشارو السوء إخفاءها عنهم والتأكيد أمامهم أن من الواجب على الشعوب أن laquo;تبوسraquo; يديها صباحا ومساء على نعمة وجود هؤلاء القادة في حياتنا. هذا الصنف من المستشارين يتقمص دور ابن عاصم أمام الإخشيدي، فقد كان المصريون يعانون بسبب زلزال ضرب البلاد في أول يوم تولى فيه كافور الإخشيدي حكم مصر، فتشاءم الجميع، لكن محمد بن عاصم وكان شاعرا محنكا حل المشكلة بقوله للحاكم: laquo;ما زُلزلتْ مصر من خوفٍ يُراد بها.. لكنها رقصت من عدلكم طرباًraquo;!
جاء شباب laquo;الياسمينraquo; لينبهوا الحكام أن الدنيا تغيرت، وأن آليات السلطة في العالم لم تعد مثلما كانت قبل عقود، وأنه لا يقلل من القادة -وبعضهم صاحب تاريخ مشرف من العمل الوطني- مراجعة النفس والاستجابة لرغبات الشعوب بإحداث إصلاح سياسي واقتصادي حقيقي, يكفل حدا معقولا من الحياة الكريمة للناس.
أما ما ينقص رائحة laquo;الياسمينraquo; الحالية المنتشرة هنا وهناك، فهو أن يترافق معها إذا اقتضت الضرورة رجال مثل laquo;رشيد عمارraquo;. هل تتذكرون هذا الاسم؟ إنه البطل المنسي وسط أحداث المشهد التونسي، الذي عج بمئات الأسماء بين سياسيين ومحللين، معارضين وحكوميين، ثوار وراكبي الموجة. انتظرت أن يتم تركيز الضوء على الرجل الأهم في هذا المشهد بعد الشهداء أبطال الثورة الأخيرة. لكنه لم يأخذ حقه الكافي، ولم يتم النظر بعمق إلى تداعيات ما قام به وأثره المستقبلي على المنطقة العربية بأكملها.
الوظيفة: قائد أركان الجيش، والدور الذي قام به خلال الأحداث: رفض إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين أو استعمال القسوة ضدهم من أجل إنقاذ نظام الديكتاتور، وإعادة الاستقرار إلى البلاد ومنع الانزلاق إلى فوضى، وتهدئة الشارع, وتفادي وقوع صدامات دامية بين المحتجين وقوات الأمن, خاصة أثناء اقتحام الآلاف وزارة الداخلية.
كان المنظر مؤثراً أن جنوداً من وحدات الجيش صوبوا رشاشاتهم نحو العشرات من رجال الشرطة لمنعهم من ضرب المتظاهرين، وشوهد ركض مجموعة من المواطنين نحو شاحنات للجيش للاحتماء بها. وبدت لافتة في شريط الأحداث دموع أحد الجنود وهو يبكي متعاطفا مع الشعب، في مشهد أجبر عددا من المتظاهرين على أن يربتوا على كتفيه، بينما في لقطة أخرى هرع عدد من المتظاهرين إلى مصافحة وعناق مجموعة من الجنود.
سيطر رشيد عمار فعليا على مقاليد أمور الدولة، وقام بتطهير القصر الرئاسي من فلول سدنة الديكتاتور laquo;الهارب الفار المخلوعraquo;. وبعد كل ذلك عاد في هدوء إلى الثكنات، دون تولي السلطة التي كانت بين يديه أمرا واقعا، ولم يسل لعابه أو يداعبه خياله للاستحواذ على laquo;الكرسي الكبيرraquo; وما به من إغراءات laquo;تطيِّرraquo; العقل, خاصة في عالمنا العربي.
لو تولى هذا الرجل المتزن السلطة حتى ولو لفترة مؤقتة لكان أجدى من عودة نفس وجوه نظام laquo;بن عليraquo; المكروهة شعبيا لفرض نفسها على الحكومة الجديدة، غير مكترثة بالرفض الجماهيري لهم، ومتناسين في سماجة عجيبة دورهم في النظام القمعي البائد. قارنوا بين عمار الذي أعاد الهدوء إلى تونس، وبين جاره الغربي خالد نزار قائد الأركان ووزير الدفاع الجزائري الأسبق الذي تدخل في أحداث بلاده أوائل التسعينيات من القرن الماضي، وانقلب على نتائج الانتخابات التي جرت حينها وأسفرت عن فوز laquo;جبهة الإنقاذraquo; الإسلامية بثقة الشعب الذي ملَّ حكم الجنرالات، ليُدخل نزار بلد المليون شهيد في حرب الدم التي استمرت نحو 10 سنوات, وأودت بحياة عدد يناهز ما دفعته الثورة الجزائرية في حرب التحرير من المحتل الفرنسي. هذه المقارنة بين عمار ونزار تكشف أن هناك أشخاصا يستحقون أن ترفعهم الجماهير على الأعناق، وآخرين أن ترفعهم الجماهير على الأعناق أيضا, ثم تلقي بهم في أقرب مقلب نفايات!
الدرس الأهم الذي يجب أن تعيه الأنظمة العربية من شباب laquo;الياسمينraquo;، أن الجيش لا يحمي نظاما فاسدا، وأن الرجال الذين يحملون على عاتقهم حماية تراب البلد ضد أي عدوان خارجي لا يمكن أن يتحولوا إلى أعداء للشعب الذي خرجوا منه. وعلى مدار التاريخ لا توجد جيوش -إلا فيما ندر- توجه سلاحها في وجه مواطنيها، وعندما ينزل أفرادها إلى الشوارع يكون دورهم مقصوراً على حماية المواطنين وممتلكات الوطن، بل وقف الأجهزة الأمنية عند laquo;حدهاraquo; إذا حادت عن دورها, وأصبحت عصا ثقيلة في يد الحاكم.
من الآن فصاعدا لا يمكن أن يحتمي أي ديكتاتور بالجيوش، ولا بأجهزة الأمن. الحماية من الشعب وحده، وعلى كل حاكم متسلط أن يدرك أن سلامة رقبته قد تكون في يد أصغر رئيس حي يعمل على راحة مواطنيه.
أما الجيوش التي تختار أن تنفصل عن المجتمع لتحصل على امتيازات وتحمي العروش، وأن يكتفي قادتها بالأوسمة من السلطة وليس الشعب، فإنها حتما ستطير مع الديكتاتور إذا جلست معه لتشم باستمتاع رائحة جسد مواطن محترق!.